أحفاد مانديلا.. أُسودُ لاهاي

 

كتب عامر طهبوب  

إنها محاكمة القرن، وإن شئتم محاكمة الاستعمار، مقاضاته، اتهامه، إدانته، إنه يوم تاريخي عظيم للعدالة المتأخرة، لدفع الأثمان، للمحاسبة، والمساءلة، ومنع القاتل من الإفلات من العقاب، إنها أعلى سلطة قضائية في العالم، والفضل في لاهاي، إلى دولة جنوب إفريقيا، إلى أحفاد نيلسون مانديلا، والأشراف من عشاق العدالة والإنسانية ونبذ الظلم.

حملت جنوب إفريقيا التي أقامت دعوى ضد إسرائيل المحتلة في الحادي والعشرين من ديسمبر الماضي بصفة مستعجلة، تتهم إسرائيل بارتكاب أعمال إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، وأعد الفريق القانوني المتخصص، مذكرة في 84 صفحة برئاسة وزير العدل في جنوب إفريقيا رونالد لامولا، وعضوية مجموعة من بينها المحامية أديلا أسيم، وجون دوغارد القاضي السابق في محكمة العدل الدولية، واستندت المذكرة إلى المادة 41 من قانون المحكمة الذي وضع عام 1948، والذي عرف مفهوم مفردة الإبادة على أنه ارتكاب أعمال بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية، أو عرقية، أو إثنية، أو دينية، وتشمل قتل أعضاء الجماعة، وإلحاق أذى بدني أو نفسي بهم، وإخضاعهم عمداً إلى ظروف معيشية يراد بها تدمير الجماعة.

نَظّر أعضاء الفريق في حضرة 15 قاضياً في لاهاي في فقه القضاء، ومخاطر الأفعال، وإثبات وجود النوايا، مستندين إلى تصريحات زعماء إسرائيل، ووزراء حكومة الحرب، وغلاة المتطرفين من الوزراء الإسرائيليين الرسميين، ومن مصادر ذات مصداقية عالية من منظمات الأمم المتحدة، والصليب الأحمر الدولي، وكل ذلك شُفع بالخرائط، والصور، والفيديوهات، لإثبات النية في الإبادة أولاً، وقد وصفت المحاضرة في جامعة جنوب إستراليا جولييت ماكنتاير الملف الذي أعدته جنوب إفريقيا بأنه شامل للغاية، وأنه صيغ بعناية فائقة.

جُنّ جنون إسرائيل وهي ترى أديلا أسيم تصوّر للقضاة نمط الجرائم والأفعال التي دفعت جنوب إفريقيا إلى تقديم الطلب لمحكمة العدل الدولية، إنه انتهاك إسرائيل للمادة الثانية بارتكاب أفعال تبين نمطاً من أنماط سلوك، يمكن له أن يحقق الإبادة، وتلفت أديلا نظر القضاة للحصار على غزة، ومنع أهلها من مغادرتها جواً أو بحراً، وأن المنافذ البرية كلها تحت سيطرة إسرائيل التي تحكمت بمصادر المياه، ومنعتها، وقطعت الكهرباء، وكثفت حملة قصف وصفتها إديلا أسيم بأنها أكثف حملة قصف في التاريخ المعاصر، وأشارت إلى الجوع والعطش، وإلى الأمراض، والتدمير الكلي، ومنع المساعدات، وأن هذا القصف الجوي - كما قالت - يستهدف مليونان وثلاثمائة ألف، نصفهم من الأطفال.

وسنستمع معاً إلى ممثل إسرائيل الذي سيمثل أمام المحكمة الجمعة، لتقديم مذكرة الدفاع، مذكرة يمكن معرفة بنودها قبل نشرها، المذابح في "أوشفتس"، والمحارق التي نجا منها شخصياً، ونوايا حركة حماس في تدمير إسرائيل، وهبل الدفاع عن النفس، وعدم استهداف المدنيين، واستخدام حماس أهالي غزة دروعاً بشرية، وهو ما رفع أعداد الضحايا، والتزام إسرائيل بالقوانين الدولية، وتمجيد أخلاق جيشها، ومحاسبة من يرتكب أفعالاً لا تمثل سياسة الدولة الديمقراطية العتيدة، ولكن أحفاد مانديلا يقفون هناك بالمرصاد، وقد سئل وزير العدل رونالد لامولا: هل تعتقد أن إسرائيل ارتكبت بالفعل جرائم إبادة للشعب الفلسطيني، فقال على الفور ودون تردد: نعم، فعَلت.

مهما كان قرار محكمة العدل الدولية، ومهما انخفض سقف القرار إذا انخفض، فسيكون سُبّة لإسرائيل، سيقل من هيبتها، ويمحو سرديتها، ويلطخ وجهها بالسواد، ووصمة عار في تاريخها المزيف، ووصمة عار على جبين واشنطن، وعلى جبين إنسانية صماء سمحت لإسرائيل بارتكاب المجازر بحق شعب عانى من الاستعمار 75 عاماً ونيّف، وما زال يناضل من أجل الحرية والانفكاك من قيد الاستعمار، ومرة ثانية وثالثة ورابعة أقول: شكراً جنوب إفريقيا، وعلى أهل فلسطين رفع علم جنوب إفريقيا عالياً على أرض فلسطين.