مشكلتنا في واشنطن قبل تل أبيب
أحمد الحسبان
عجيبة تلك القراءات التي تربط بين حشد الولايات المتحدة لحاملات طائرات وغواصات نووية وقطع بحرية يمكنها تدمير العالم أكثر من مرة، واحتلاله فيما إذا لم تمنعها قوة مماثلة، وبين عملية «طوفان الأقصى» وما تبعها من أحداث السابع من أكتوبر. وأكثر عجبا التحليلات التي تسطّح الموقف الأميركي المنحاز بالكامل لدولة الاحتلال، والتي تكيف القانون الدولي لخدمة الكيان المغتصب للأرض الفلسطينية والذي يرفض التوقف عند حد معين ويواصل أطماعه التوسعية على حساب الشعب الفلسطيني والشعوب العربية.
وما هو أكثر من ذلك تمسك العديد من الدول العربية وغالبية دول العالم بعلاقات متميزة مع من تعهد- وما يزال- بحماية الاحتلال وتبرير جرائمه وتقديم كل ما يطلب من أدوات التدمير والقتل والإجرام كمساعدات وتمكينه من التفنن بابتكار الجرائم وتنفيذها كما حدث في قطاع غزة الذي سجل رقما قياسيا في مجال قتل الأطفال والنساء وتدمير الأحياء والمستشفيات والمدارس والجامعات ومراكز الإيواء وابتكار أساليب خبيثة في محاولات التهجير تمهيدا لتنفيذ مخططات توسعية على حساب دول ذات سيادة ما زالت تتمسك بصداقة واشنطن والارتباط معها باتفاقيات ومعاهدات وتقدم لها من الخدمات الشيء الكثير.
فمع أن المشروع الصهيوني أصبح منظورا ومعروفا ولا تخفى ملامحه على أي متابع، ويتمثل باستغلال أي ظرف من أجل تنفيذ عمليات التهجير إلى مصر والأردن ولبنان وغيرها من الدول، وبما يهدد سلامة وأمن الدول المستهدفة، تتمسك هذه الدول بعلاقاتها «المتميزة» مع واشنطن، وبـ»الشراكة» معها، وبما تقدمه من مساعدات. كما يحتفظ بعضها بعلاقات دبلوماسية مع عدوها الذي لا يبدي أي قدر من الخجل في الإفصاح عن مخططاته الرامية إلى تهجير الفلسطينيين إلى أراضيها والتي تبذل كل جهد ممكن في تنفيذ ذلك المخطط الإجرامي الذي يرفضه الفلسطينيون وترفضه الشعوب الأخرى وتؤكد حكومات الدول المستهدفة رفضه ومقاومته مهما كلف ذلك. بدلا من اتخاذ إجراءات أكثر حسما في إعادة دراسة ملف العلاقات مع واشنطن وفق إطار مصلحي، وبما يضع حدا لانحيازها السافر لدولة الاحتلال ومشاريعها الخبيثة. والتحرك دوليا وثنائيا لإعادة تصويب المشهد الفلسطيني بدءا من وعد بلفور وما قبله، والمخطط الغربي لزرع ذلك الكيان في الخاصرة العربية واغتصاب أرض فلسطين لهذا الغرض. فالمشهد الراهن يتجاهل الكثير من المحطات ويقفز إلى قيام كيان الاحتلال واعتباره كيانا شرعيا والادّعاء بأن له الحق في الحماية وتسخير الشرعية الدولية التي تم تجاوزها والقفز عليها لخدمة عدوانه. بينما يتم تجاهل البدايات بكل تفاصيلها المؤلمة وكل ما تركت من آثار كارثية قتلت الشرعية الدولية بالتزامن مع قتل شعب كان وما يزال من أكثر شعوب الأرض حيوية، ومحاولة اجتثاثه خدمة لحلم توراتي مزعوم ولمشروع صهيوني لا علاقة له بالشرعية الدولية، وحاضنة لأخطر وأبشع مشروع إجرامي عرفته البشرية.
ففي التطورات الأخيرة ما يكفي للوصول إلى قناعة بأن مشكلتنا كعرب مع واشنطن أكثر من كونها مع تل أبيب. فواشنطن لا تعجز عن الضغط على دولة الاحتلال من أجل الاعتراف بحقوق الفلسطينيين. ولا بإلزامهم بالتخلي عن مشاريع التهجير، ولا تنفيذ جرائم ضد الإنسانية، ولا حتى وقف إطلاق النار وتصويب الخلل الذي هز العالم وحرك ضمائر الشعوب ودفعهم إلى ممارسة الضغوط على حكوماتهم من أجل تعديل مواقفهم المنحازة إلى كيان الاحتلال.
وفي السياق ذاته، فقد أثبتت المقاومة الباسلة قدرتها على تحجيم القوة الإسرائيلية المحتلة، وأثبت الشعب الفلسطيني قدرته على التكيف مع أصعب الظروف بما فيها من قتل وتدمير وحرمان وتجويع، لتحقيق الهدف الأسمى والمتمثل بتحرير الأرض وطرد الغاصب المحتل. وأنه لولا الدعم الأميركي المطلق لكانت النتيجة مختلفة عما آلت إليه في كل المراحل.
ويبقى المطلوب أن تعيد دول المنطقة، حساباتها بإعادة قراءة ملف علاقاتها مع الولايات المتحدة التي لا يختلف اثنان على أنها سبب مشكلتنا. حيث أرسلت وترسل قوتها النووية والبحرية والجوية ومجموعات خبرائها إلى إسرائيل والمنطقة لإرهابنا وإرعابنا وتأكيد سيطرتها على المنطقة بحيث لا يفكر أحد بمساندة المقاومة أو حتى التعبير عن قدر من التشجيع والاستحسان لما قامت به. وتمكينها من تنفيذ مشاريعها الإجرامية البشعة.