الخطيب يكتب: نحو أفقٍ لما بعد الحرب على غزة
عبد الإله الخطيب
أما وقد تم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق نار مؤقت في الساعات الأخيرة، ورغم أي شكوك في إمكانية صموده، فإن من المهم أن يبدأ التفكير في كيفية فتح أفق سياسي يُمكّن من العمل نحو تسوية دائمة للصراع تجنّب المنطقة العيش وسط هذه الدوامة من القتل والمعاناة وعدم الاستقرار.
ولطالما أدركنا في الأردن، دولةً وشعباً، بصورة راسخة، أن القضية الفلسطينية تبقى القضية المركزية والأولى؛ إذ إن تبعاتها وتداعياتها تمس كل أوجه حياتنا، وتنعكس علينا بصورة مباشرة، الأمر الذي يخلق إجماعاً كاملاً حول القناعة بأن إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة مصلحة وطنية عليا.
ومن هذا المنطق، لم تتوقف الدبلوماسية الأردنية التي يقودها الملك شخصياً، عن تذكير العالم أجمع بأن التلكؤ في العمل لإيجاد حل عادل لا بد من أن ينعكس، آجلاً أم عاجلاً، على أمن واستقرار المنطقة، وما يرافق ذلك من تهديد للاستقرار الدولي. ورغم خبو الاهتمام الدولي، وما نتج عنه من تراجع العمل لإيجاد ذلك الحل، بقي الأردن يحذر في كل مناسبة من مخاطر وتبعات ذلك.
جاءت الحرب الطاحنة ضد غزة، بكل توصيفاتها السياسية والقانونية، دليلاً ساطعاً على صحة ذلك الموقف، وعلى ما يمكن أن تشهده المنطقة من مآسٍ، وإثباتاً أن الهدوء الخادع لا بد من أن يعقبه تفجُّر الأوضاع.
مقابل ذلك، وعلى الجانب الآخر، جهدت الحكومة الأكثر تطرفاً وعنصرية في تاريخ إسرائيل، في ترسيخ انطباع حول إمكانية القفز باتجاه توسيع علاقاتها الإقليمية، من دون معالجة القضية المركزية. وحاولت هذه الحكومة والنسخ اليمينية التي سبقتها تسليط الضوء على تحديات إقليمية أخرى لتسويق مفهوم التعاون الإقليمي.
إن حتميات الجغرافيا والتاريخ والديموغرافيا حالت دون قبول الأردن بذلك النهج؛ إذ حرص على مواصلة الجهود نحو التركيز على ضرورة إيجاد حل سياسي، موضحاً أن العنف والقوة لن يوفرا حلاً قابلاً للبقاء.
أثبت الشعب الفلسطيني، وبغض النظر عن الذين حاولوا قيادته خلال قرن كامل، أنه لن يتخلى عن حقوقه ولن يقبل محاولات إلغائه، وبالتالي فإنه من المستحيل القفز على قضيته. واستمرت الشعوب العربية والإسلامية بالتمسك باعتبار فلسطين القضية الأولى لاعتبارات إنسانية وقومية، إضافة إلى الجوانب الدينية الناشئة عما تزخر به أرض فلسطين من مقدسات إسلامية ومسيحية.
كانت هناك أخطاء وخطايا كثيرة خلال التعامل مع هذه القضية على مر العقود استغلها اليمين الإسرائيلي لتكريس الاحتلال وإعاقة جهود السلام، من خلال العمل على شراء الوقت لخلق «حقائق» على الأرض تؤدي بالنتيجة إلى الادعاء باستحالة إقامة دولة فلسطينية مستقلة. كما عززت واستغلت الانقسام الفلسطيني، وتجنَّبت مقابلة مبادرة السلام العربية بقبول واضح بالعمل على تنفيذ التزاماتها القانونية الدولية التي من شأنها أن تؤدي إلى حل الصراع على أساس حل الدولتين. هذا بالإضافة إلى دأبها على الترويج لعدم وجود شريك فلسطيني يملك الشرعية والمصداقية والقدرة على إبرام السلام معها. ولم توفر حيلة أو مناورة لترسيخ ذلك المفهوم، حيث دأب اليمين الإسرائيلي، ومنذ اغتيال رئيس الوزراء الراحل إسحق رابين، على نسف كل جهد يمكن أن يؤدي إلى حل الدولتين.
شهدت الأسابيع الماضية، ومنذ أحداث السابع من أكتوبر (تشرين الأول) وما تبعها من حرب إبادة شنتها إسرائيل بعدما حصلت على شيك على بياض من الغرب الرسمي، بداية صحوة دولية تجلَّت بدعوات متكررة من مختلف الدول للعودة إلى إحياء خيار الدولتين بوصفه الحل الوحيد القادر على إنهاء هذا الصراع. ومن المؤكد أن تتواصل، بعد انتهاء هذه الحرب الهمجية، محاولات اليمين الإسرائيلي لترسيخ مفاهيم تنسف هذا الوعي الدولي المتجدد للحيلولة دون انطلاق جهد حقيقي للوصول إلى حل الدولتين.
ولمواجهة مثل تلك المحاولات المتوقَّعة، لا بد من أن تتخذ الأطراف الفلسطينية والعربية والدولية عدداً من الإجراءات، وأن توفر متطلبات محددة تحول دون تمكين إسرائيل من الاستمرار في إضاعة المزيد من الوقت، وفي تشتيت الجهود الهادفة إلى تحقيق الحل المنشود. وهذا يستدعي تحديد ما هو مطلوب من عمل سياسي ودبلوماسي خلال المرحلة التي تلي انتهاء هذه الحلقة من سلسلة استهداف المدنيين وشن حروب الإبادة على الشعب الفلسطيني. وإذا لم ننجح جميعاً في توفير ما هو مطلوب، فسيتم التفريط في التضحيات الضخمة والثمن الباهظ الذي دفعه أهالي غزة، وستبقى المنطقة في نفق مظلم طويل.
* وزير الخارجية الأردني السابق والمبعوث السابق للأمم المتحدة إلى ليبيا