"الصفقة" هزيمة أخرى لـ"إسرائيل" وبداية انكسارها
كتب راكان السعايدة
بعد هزيمة "إسرائيل" في طوفان 7 تشرين أول، هاهي تهزم مرة أخرى، وتُجبر على صفقة تبادل وهدنة وفقًا لمنطق المقاومة وشروطها، لا منطق الاحتلال وشروطه.
والصفقة بذاتها تؤكد ما يلي:
أولًا: فشل "إسرائيل" بمعناه الاستخباري، وبمعناه العسكري، في استعادة أسراها، إذ استماتت كي تعيدهم عبر جيشها لا عبر صفقة، بدون طائل.
ثانيًا: قدرة المقاومة على إخفاء عشرات الأسرى رغم كل ما يتوافر لـ"إسرائيل" من قدرات ووسائل تجسس وفائض قوة مسنود بدعم أميركي وأوروبي.
خضوع "إسرائيل" للصفقة، وفرض المقاومة لشروطها من موقع القوة والندية، سيؤدي، ولو جزئيًا، إلى انكسار موجة العدوان على قطاع غزة، وفي السياق الكلي ربما يؤسس لتعميق منطق وقف دائم لإطلاق النار.
ولهذا روافع وأسباب يمكن لدول عربية وإسلامية معنية، وليس غير المعنية، البناء على تلك الروافع والأسباب لوقف العدوان، ومن بينها:
أولًا: الصفقة التي تمت لن تكون الأخيرة، وسيتبعها صفقات مجزأة، وستكون بذات شروط المقاومة، وربما تضيف إليها شروطًا أخرى، بمعنى أن موجة العدوان الهمجي ستُـكسر عدة مرات.
ثانيًا: ستضطر "إسرائيل"، وفقا لما سبق، إلى القبول بصفقات جديدة، ليس بفعل ضغط المقاومة فقط، وإنما بفعل تدحرج ضغط ذوي الأسرى وتناميه ليصبح أكثر قوة وتأثيرًا لعقد صفقات مماثلة.
ثالثًا: لن يقوى رئيس وزراء الكيان بنيامين نتانياهو في الصفقات اللاحقة على المماطلة كما فعل في الصفقة الأولى، وسيخضع لمنطق شريكيه في العدوان بيني غانتس وغادي أيزنكوت، وهما كانا الأشد دفعًا للصفقة.
رابعًا: تيقنت "إسرائيل" أن ليس بمقدورها تحرير أسراها، لا استخباريًا ولا عسكريًا، وأن محاولتها العودة إلى الإسرائيليين بصورة نصر قد فشلت، بل دفعت ثمنًا باهظًا.
بالنتيجة، فلكل ما سبق مفاعيل "أثر الفراشة" التي من شأنها تعميق أزمة "إسرائيل" وتعزيز انقسامها الداخلي، شعبيًا ورسميًا، وهو انقسام، بطبيعة الحال، لم يتوقف عند مسألة الأسرى، بل وطريقة إدارة الحرب ذاتها، وفق ما يعكسه إعلام الاحتلال.
وإذا ما وسّعنا النظر، في سياق صفقة الأسرى، ودققنا في حيثيات ومعطيات إسرائيلية ودولية ستعزز فرصة بناء موقف عربي وإسلامي ضاغط لوقف العدوان. وشرط ذلك أن يبنى الموقف على خطة محكمة ومنسقة تستفيد من الوقائع التالية وتوظفها:
أولًا: كل يوم يمر على العدوان دون أن تحقق فيه "إسرائيل" نصرًا حاسمًا ستكتشف أن أهدافها من العدوان أكبر من قدرتها على تحقيقها، وأول هدف سقط هو تحرير أسراها بدون صفقات.
ثانيًا: في عمق التفكير الإسرائيلي والأميركي قناعة أن استئصال المقاومة محض خيال، لأنك مهما وظفت من فائض القوة التدميرية فلن تقتلع فكرة، والمقاومة فكرة لها عمق وامتداد شعبي.
ثالثًا: حرب "إسرائيل" ستكون طويلة، وهذا يتضادّ مع طبيعتها وتوقعاتها، وخسائرها تتعاظم على نطاقات عدة، عسكرية واقتصادية وسياسية واجتماعية وإعلامية. ليس أدل على ذلك من قول مسؤولون إسرائيليون: "نواجه "عدوًا" غير عادي وغير متوقع".
رابعًا: "إسرائيل" خسرت الرأي العام العالمي المتعاظم والمنحاز للجانب الفلسطيني، وهذا الرأي العام بات ضاغطًا على حكومات بلاده، ويمكن ملاحظة قدر من الإزاحات ومحاولات الموازنة بين دعم "إسرائيل" والضغط عليها في الجوانب الإنسانية، وهذا لم يكن هو الحال بداية العدوان.
خامسًا: تملمُل الدولة العميقة في أميركا بات جليًا، ويمكن تلمّسه من كمّ التصريحات والتسريبات الضاغطة على "إسرائيل" بشأن صفقة الأسرى وتجنب قصف المدنيين، بل إن الخشية الأميركية هي أن تتعرض لمزيد من الخداع والتضليل الإسرائيلي كما في قصة مجمع مشفى الشفاء التي وضعت الرئيس الأميركي في حرج كبير أمام الجميع.
سادسًا: ليس من دولة عربية أو غربية تماهت مع "إسرائيل" بشأن التهجير، بل كان الرفض، على الأقل العلني، هو الأساس، وهذا يعيق خطط "إسرائيل" بما فيه تفكيرها بتفريغ شمال غزة وجعلها منطقة عازلة.
سابعًا: لن تجرؤ السلطة الفلسطينية أو أي دولة عربية أو غربية أو جهة أممية دخول قطاع غزة لإدارته بفرض أن حماس خرجت منه ومقاومتها، وهذه عمليًا فرضية ساقطة.
هذه الوقائع، وغيرها، تعد فرصة يمكن اقتناصها والبناء عليها لتعظيم مأزق الكيان الإسرائيلي وأزمته وتعميق تداعيه وهشاشته، وتوسيع التلاوم والتراشق بين مكوناته، وهو ما سيكون له انعكاساته على مجريات الحرب وأهدافها.
والوقائع ذاتها، إذا ما أحسن استثمارها، ستزيد الحرج الغربي من زاوية القيم الأخلاقية والإنسانية، ومن زاوية حساباتها السياسية الداخلية، وكلما تأكد هذا الغرب من استحالة تحقيق "إسرائيل" أي نصر، غير الإبادة والتطهير العرقي والغرق في رمال غزة، فهو بالضرورة لن يحتمل كلفة ذلك لا داخليًا ولا خارجيًا.
نعم، "إسرائيل" تُهزم، ولو بالقطعة، لكنها ستهزم بالنهاية، وسرعة الهزيمة رهن الاستثمار في تعظيم أسبابها الماثلة أمامنا.. هزيمتها العسكرية تعني انكسار مشروع تصفية القضية الفلسطينية.