إسرائيل تكذب على العالم ونحن نكذب على أنفسنا

نادية حرحش (كاتبة فلسطينية)

بعد أكثر من شهر على هذه الحرب الهوجاء، صارت الأيام ارقاماً، كما صار من ارتقى من هذه الدنيا الظالمة. أرقاما  لم نعد نستطيع حصرها. القتل في كل مكان. تنتشر رائحة الدم وكأنها تخترق الشاشة لتتصلب شراييننا وتستمر صدمتنا امام هذا الدمار الشامل . قتل ودمار ودم من كل اتجاه. 

متى ستكتفي إسرائيل؟ 

زال الرعب الذي كنت أشعر به عندما أسمع ما يقوله الإسرائيليون عن وجهة حكومتهم نحو مسح غزة عن الخارطة. فنحن نعيش هذا الرعب ونراه منذ السابع من تشرين الأول الأسود. لو كان زلزالاً لهدأ. لو كان طوفانا فلا بد ان ينتهي. 

لن تتوقف إسرائيل لأن المهمة الوحيدة هي تدمير وقتل كل ما يمكن تدميره وقتله. قبل أسابيع كنا نخوض في مسألة الأسرى لعلها تشكل نقطة تفاوض يذكر جميع الأطراف ببعض الإنسانية. ظننا ان إسرائيل تعبأ لمواطنيها. حسبنا خطأ أهمية الاسرى بالنسبة لهم. هم يحاربون حتى آخر اسير، وفي غزة الحرب حتى آخر غزّي. 

من غزة الى جنين وانحاء هذا الوطن الدامي لم يعد هناك الا المزيد من الدمار والقتل. 

غضب يؤججه الدم والقتل والدمار أكثر ولا حياة الا للمتمكنين من أصحاب السلطات في كل مكان. 

كثيرا ما أحاول فهم ما يجري من خلال النظر بعيون الآخر، ولكني هذه المرة فشلت ان افهم وان أرى بعيون ذلك الاخر. وكأن تركيبتنا أخرى. وكأن عيوننا وعيونهم لا ترى الأمور بنظر واحد. فالدم الفلسطيني بالنسبة لهم كالكتشاب، يزيد من شهيتهم على الطعام أكثر. وهم بالنسبة لنا مجرد غزاة لا حق لهم بالوجود على ارضنا فلا حق لهم بالحياة متى أمكن. 

ما العمل ولقد وصلنا الى انعدام الحلول وغياب كل الأفق، فلا حلول في الأرض ولا في السماء. فقط، جرف البشر والحجر من الأرض وقصف ما تبقى من بشر وحجر من السماء.

غزة تحولت من ذلك السجن الكبير المحاصر الى مقبرة جماعية لهذا الشعب الذي لا يتوقف سحقه من جهة ومحوه من جهة. 

هل ننتظر معجزة إلهية؟ 

هل ننتظر تدخل العالم العاجز عن حتى التعبير عن رأيه؟ 

هل ننتظر الحكومات العربية والغربية بالتدخل؟ 

لا يوجد معجزة الآن أكبر من ان تقرر إسرائيل ان توقف هذا القصف الغاشم. كيف تتحقق هذه المعجزة؟ 

قبل أسابيع تمنيت ان نستطيع ان نفكر باليوم التالي لهذه الحرب اللعينة ونكون أقرب الى الوحدة والتماسك. ولكني اليوم لا أستطيع ان أفكر باليوم التالي الا بعيون اهل غزة الناجين (جسدياً من هذا الدمار(. لا أستطيع الا ان أفكر بامرأة تفتش عن طفلها وسط الدمار. لا أستطيع الا ان أفكر بأطفال لم يعد هناك حضن او بيت يحضنهم. لا أستطيع الا ان أفكر بعائلات تبحث عن بيوتها التي كانت قبل هذا الدمار. لا أستطيع الا ان أفكر بهذا الدمار الذي دمر كل معاني الحياة التي كانت بالكاد ممكنة في غزة قبل شهر لتكون في كل يوم يمر مستحيلة اكثر. 

لا أرى الا نكبة حقيقية، عشنا تداعياتها منذ وعينا على هذه الدنيا، فتأثرنا بها وحفرت ذكرياتها بوجداننا. ولكننا اليوم نراها كفيلم ثلاثي الابعاد، تتحرك الصور الثابتة بهذا الطوفان البشري بعشرات ومئات الالاف بلا تهويل بالأرقام. لم تعد الأرقام مهمة… فالحدث بكارثيته تخطى كل شيء. فغزة التي كانت اكبر سجن مفتوح تحولت الى اكبر مقبرة جماعية.

ما الذي تريده إسرائيل والعالم المتحضر أكثر؟ 

قنبلة نووية كما قال وزير تراثهم، ام حتى اخر “واحد منهم” (منا) كما قالت عضو الكونغرس الامريكية؟ أم ان “التشرد طريقة حياة للبعض” كما قالت وزيرة الداخلية البريطانية المخلوعة؟

لقد حسم الامر منذ وسمنا بأننا “وحوش بشرية” وسكت العالم سكوت الخرسان. 

لقد حسم الامر منذ قصف المستشفى وصار الموضوع من قصف المستشفى لا على رؤوس من قصفت المستشفى. 

لقد حسم الأمر منذ لم تعد دماء الأطفال ولا جثثهم ولا اوصالهم المقطعة ولا دموع من نجا منهم الا نقاش ارقام مشكوك في صحتها. فهل نحن امام مقتل أربعة او خمسة ألف طفل ام اقل بقليل او كثير. 

لقد حسم الامر منذ قرر العالم ان الشعب الذي يسمح بأن يكون درعا بشريا يجب ان يسحق ويسوى بالتراب. 

لطالما حاولت ان أجد ذلك المكان المتوسط بيننا وبين هذا العالم. 

لطالما حاولت ان أفسر، أتكلم، ابين ان الإنسانية لا شرق ولا غرب فيها.

اليوم اعرف ان الإنسانية لا تنقسم فقط ما بين ما هو شرق او غرب، ولكنها تنقسم فيما هو انساني وما هو اقل إنسانية بحسب معايير العرق الأبيض االصهيومسيحي. 

لا أريد عالما لا ينتفض الا عندما تصبح الضحايا أشلاء لا يمكن جمعها وأرقاماً لا يمكن حصرها.

لا أريد عالما يبرر الإبادة الجماعية تحت وطأة المعايير الإنسانية.

لا أريد عالما تحكمه إسرائيل بكذبها بينما تسفك الدماء بلا هوادة او خجل فيبرر لها. 

لا أريد عالما يكذب على نفسه وينتصر بعدد الضحايا.

 اليوم أعرف انني لا اريد ان أنتمي لهذه الإنسانية. 

ليتوقفوا هذا العدوان الآن .