في المفاهيم المرتبكة وحق الحياة

مالك العثامنة

سأتحدث بصراحة..
عندي تاريخ من المقالات التي تعبر عن موقفي من تيارات الدين السياسي عموما، والإسلام السياسي خصوصا. وهو موقف رافض لحضورها أساسا في المشهد السياسي، ومبني على قناعات أساسية تشكلت طوال سنوات مما قرأت وسمعت وشاهدت وشهدت في عملي كصحفي وباحث وكاتب.


في أحداث غزة كان هناك حرج الخلط في المواقف. وعليه لزم التفكيك.
إذا وضعنا الدولة مسطرة قياس، كمفهوم كيان مؤسساتي قائم على المواطنة السليمة المبنية على الحقوق والواجبات وسلطة القوانين والتشريعات المبنية على الحقوق الإنسانية وكرامة ذلك الإنسان فسنجد أن إسرائيل دولة احتلال باعتراف وإقرار دولي منذ عام 1967. 
في إدارتها للإحتلال العسكري في الضفة الغربية وقطاع غزة، فهي تمارس الاعتداء الوحشي على كرامة الإنسان، وتنتهك معظم القوانين الدولية الناظمة لحقوق هذا الإنسان، بل وتنتهك منظومة التشريعات والقوانين التي أصدرتها هي نفسها مع ادعائها المستمر بوهم "الديمقراطية".
في حروبها "المستمرة منذ سنوات" على قطاع غزة، ارتكبت إسرائيل الفظائع في انتهاكاتها ومارست كل المحرمات الدولية المتفق عليها عالميا، وفي عدوانها الأخير بعد السابع من أكتوبر، تجاوزت دولة الاحتلال "وهذا وصف شرعي دوليا يجب ترسيخه" كل الخطوط الحمراء وبغطرسة غير مسبوقة في التاريخ الحديث للعلاقات الدولية منذ نشأة هيئة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. 
الدول الراسخة في ديمقراطياتها والمؤسسة على قيم حقوق الإنسان وضعتها نخبها السياسية في موضع الشك واهتزاز المصداقية أمام دعم هذه النخب السياسية لإسرائيل في كل عدوانها مما جعل المنظومة الدولية أمام امتحان حقيقي فات الأوان بعد كل هذا الدم ان يجتازه الجميع بنجاح.
في المقابل، هناك شعب فلسطيني تحت الاحتلال يبحث عن حقه في تقرير مصيره منذ عقود طويلة، وقدم في آخر المطاف بعد صراع مرير وطويل من مقاومة الاحتلال ورقته الأخيرة للسلام مع إسرائيل وأخفق هذا السلام وانتهى بمشروع حكم ذاتي بائس انتهى هو الآخر على صيغة سلطة منتهية الصلاحية تواطأ في إفسادها وتقويضها الإسرائيليون أنفسهم.
لم تكن إرادة السلام متوفرة عند الإسرائيليين أصلا، وهذا يجب أن يدركه العالم بوضوح.
في غزة، سيطرت الحركة الإسلامية ممثلة بحماس على السلطة وحكمت القطاع طوال سنوات بتمويل مستمر كان يدخل كسيولة نقدية تحت مرأى ومسمع الإسرائيليين المهتمين بتقويض أي فرصة سلام محتمل مع الفلسطينيين.
الحكم الإسلامي لغزة لم يكن خيارا لأهلها بقدر ما كان حتمية ضرورة للعيش تحت حصار احتلالي محكم تتحكم فيه إسرائيل بكل تفاصيل الحياة اليومية في قطاع معروف أنه الأكثر كثافة سكانية في العالم.
في السابع من أكتوبر، تعرضت إسرائيل لأكبر هزة في تاريخها منذ إنشائها عام 1948، أكبر مما تعرضت له في حرب أكتوبر 73. ومع مزاج عام يميني ينتج أسوأ حكومة إقصائية متطرفة تمارس الاستبداد باسم الديمقراطية فإن الهزيمة كانت موجعة وغير محتملة وخلقت الحس الانتقامي الدموي الذي وقع ضحيته كل هؤلاء الأبرياء من المدنيين في غزة.
الموجع عربيا، هو تخوين "عربي شعبوي" كل من لا يؤيد حماس في سياساتها. تماما مثل حالة التحريم الدولي المنافق لكل من لا يدين حماس في ظرف حساس تمارس فيه إسرائيل قصف الأبرياء والمدنيين والمستشفيات.
 حتى الأصوات الغزية الكثيرة جدا التي نسمعها يوميا عبر أجهزتنا الذكية وتصلنا عبر التواصل المباشر أحيانا مع أهل غزة والتي تصرخ بعبارة "بدنا نعيش" صارت التغطية لكتمها واجب وطني وإحلال مفهوم ملتبس وبلاغي لا اكثر اسمه "الصمود" فوق كل تلك الأصوات المستنجدة.
الصمود، يتطلب شرطا لاكتمال مفهومه الصحيح، والشرط هو ان يكون خيارا لا واقعا مفروضا بالقوة الشرسة والدموية بلا أي مخارج للنجاة.
نعم، هناك مقاومة، يجب إسنادها لأنها خيار الضرورة أمام كل هذا الإحكام المغلق على فرص النجاة.
ووقف إطلاق النار وإجهاض كل خطط التهجير والترحيل بالموازاة مع إدخال المساعدات سيفتح خيارات كثيرة وجديدة سيسمعها العالم. خيارات بصوت الفلسطينيين أنفسهم الباحثين عن الحياة الكريمة في وطنهم بدون أي وصايات من أي طرف.