هيئة أم خيبة أمم؟
أماني حماد
“إذاً فلنهدمها من الداخل!” بهذه عاجلتني صبية مثقفة مشتبكة في المشهد السياسي مهاجمة هيئة الأمم المتحدة. كان حديثنا قبل نحو سنتين، عن الهيئة، وما إذا كانت أداة للخير والعدل والسلم، أم مجرد جسم بيروقراطي يعزز الفوارق بين الأقوياء والضعفاء كلٌّ في خندقه المحتوم.
أسعفتنا بكرات الفيديوهات من قطاع غزة بتوثيق لاقتحام العشرات لمخازن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين –الأونروا- أرفَقها كل من أعاد نشرها بسيل من اللعنات على الأمم المتحدة المتآمرة على الشعب الفلسطيني والقاصدة الإمعان في إيلامه فوق ألمه. في نفس الوقت، ترشح أنباء عن ارتباط زوج أحد الموظفات الأمميات في المناصب العليا بتجارة السلاح، السلاح الذي يشق طريقه فوق رؤوس الأطفال في غزة، يحرقهم ويذيب أطرافهم، ويتكرر سيل الشتائم للمنظمة الأممية العميلة الخائنة. ونستذكر كفلسطينيين لاجئين روايات الجدات المحذرة من تناول المدعمات المقدمة للنساء الحوامل في عيادات الوكالة، لأنها تجربة مخبرية على عينات بشرية، تفقد أجنتهن يداً أو قدماً أو عيناً.
يستطيع أي خبير في العمل الإغاثي أن يشرح لك كيف تتعامل المؤسسات في حالات الكوارث مع محدودية المؤن، وضرورة ترشيد صرفها خاصة عندما لا يكون من الواضح متى سيصل المزيد منها. الجوع كافر، لكنه عام وشامل، إذا نفذت المياه أو الغذاء، لا ينفع مدخري الأموال أموالهم، فلا مال يستطيع أن يهطل السماء أو ينبت الأرض عن غذاء. تتعامل الأمم المتحدة كأي مؤسسة إغاثية مع هذه المعطيات. ولا أرى في هكذا اقتحام إلا محض فوضى مدفوعة بالخوف والضغوط الهائلة التي يقع تحتها أهل القطاع وهو أمر متوقع ومتفهم. ما لا أتفهم، هو شيطنة المؤسسة التي لم يبق من العاملين فيها سوى العاملين المحليين القابعين أسوة بباقي أهل القطاع تحت القصف والحصار، بعد إجلاء الموظفين الأممين، فهل هؤلاء أيضاً مستحقون للّعنات؟؟ هل هو تراكم لخيبات أمل من عقل المؤسسة، يجعل من المستحيل قبول توبتها التطهيرية المتمثلة في العمل في الميدان تحت أعوام طويلة تحت القصف والحصار. ويدفع الكثير من المدافعين عن الهيئة ونزاهتها بأنه من غير المتصور تحميلها مسؤولية التصرفات الفردية للعاملين فيها وعلاقاتهم الأسرية. وسيؤكدون لك، إذا فتح يوماً ما ملف العقاقير التي قدمتها وكالة اللاجئين في الماضي السحيق لجداتنا، أن ما حدث كان سلوكاً فردياً من موظف فاسد، لا يمثل المؤسسة. وهي دفوع معقولة، ولكن لنا أن نتساءل عن مدى جدية المؤسسة في منع هكذا استثناءات وسلوكات فردية من التكرار، كيف تطوع الدروس المستفادة في تطوير عملك وتجنب تكرار الأخطاء، وهو أمر تفعله أي مؤسسة عامة أو خاصة، فلماذا لا تفعله الأمم المتحدة؟ أم أنها تفعله لكن توسع نطاق عملها وترامي مواقعها في أنحاء العالم، وطبيعة عملها الذي تصبغه الطوارئ والاستجابة السريعة أحياناً يجعل احتمالية تكرار الأخطاء عبر سبل جديدة أمراً متصوراً.
بالنسبة لامرأة عملت في الأمم المتحدة ما يزيد على خمسة عشر عاماً، رأيت في الجهاز الأممي مساحةً واسعةً للعمل من أجل أهداف سامية، ربما لأنني عملت في أحد الأجهزة المعنية بالتنمية وتعزيز الحقوق الأساسية وتحقيق أهداف حمائية لكل البشر. ولم أصطدم بالمؤسسة الأصلية، وميثاقها إلا بعد انفكاكي من العمل معها خلال دراستي للقانون. يمضي طالب القانون فصولاً طويلة يدرس القانون الدولي، ويتشبع حد القرف آراء الفقهاء المتضاربة حول كون القانون الدولي قانوناً أصلاً، حتى يصل بعد عناء لدراسة الميثاق الأممي، والشرعة الدولية لحقوق الإنسان، وهو لا يزال يحمل شكاً عميقاً حول ما إذا كان يدرس قانوناً حقاً أم مجرد قواعد استرشادية. تدور فلسفة القوانين بالمجمل حول حماية المصالح المشروعة، وتنظيم المصالح المتضاربة، ويُعجِب طالب القانون أن يتصور نفسه فارساً من فرسان الحق، وأداة لإحقاق العدل. ما يجعل دراسة القانون الدولي، الذي لا يتيح مساحة حقيقة لحماية الحقوق وإحقاق العدل، أمراً شائكاً من ناحية قيمية وإنسانية. فمن ناحية، يرى الدارس في تشكيل المحاكم الدولية، كالمحكمة الجنائية الدولية، حرصاً على تمثيل متوازن، وضمانات لإحقاق العدل في قضايا إنسانية مؤلمة، كالجرائم ضد الإنسانية، والمذابح وحجز الحريات وقتل الصحفيين…. إلخ. ثم ينظر إلى تشكيل مجلس الأمن، الذراع الإنفاذي للقرارات الدولية وقرارات المحاكم والجمعية العمومية وصلاحياته وقيوده، ليجد أن كل ما يمكن التوافق عليه بين جموع الأمم المتمدنة، يقع أسير سياسيي الدول العظمى، وعرضة لتقلب أهوائهم ومصالحهم، وأحياناً تبعاً لتذبذبات إقبال ناخبيهم على صناديق الاقتراع. بين صلاحية الفيتو للخمس الأقوياء، إلى انسداد أفق إصلاح المؤسسة بحكم ميثاقها العاقر، الذي تُقيّد مراجعته بإجماع مستحيل التحقق، إلى انعدام القدرة على إنفاذ القرارات، إنتهاءً بتعنت الدول المارقة المدعومة من الأقوياء ورفض قرارات الإجماع والاستخفاف بكل ما تمثله.
وربما كانت القضية أوسع من مجرد مساحة الأمم المتحدة وقدرتها على إحداث اختراق نوعي في السلم والأمن الدوليين، ربما كان السؤال الأهم حول واقعية النظام القائم على القواعد الثابتة “rules based system” الذي تثبت فيه التوقعات حول الأعراف، وما هو مقبول وما هو غير مقبول، النظام الذي يكون للسياسي والدبلوماسي فيه ثقل تبعاً لمنطقه ووزنه لا تبعاً لقوته العسكرية وقوام جيشه، النظام الذي تكون فيه التوقعات واضحة، وتبعات الأفعال واضحة، مجحفة بعدالة. ربما كان لصعود اليمين الفج واستقطاب افكاره أحياناً دورٌ في كسر القواعد. وفي ذات الوقت يمكن أن تجادل أن التعمد في كسر القواعد هو ما انتج الاستقطاب وصعّد هذا اليمين الفج، وندور في كلا الفرضيتين في حلقة مفرغة ندوس خلالها على قيمة الحياة ونجعلها أكثر هشاشة.
أعود إلى صديقتي الشابة، وأستذكر أنني في طفولتي كنت أنظر إلى علم الأمم المتحدة الأزرق باحترام شديد، وأرى بسذاجة في المؤسسة الدولية معقلاً للعدل والسلام. بينما ترى صديقتي الشابة اليوم في الجسم الدولي، عجوزاً سميناً مكلفاً لا يملك إلا مباني وموظفين يحملون قرطاسيتهم وأنظمتهم الإدارية ومشاريعهم من مكان إلى آخر ويخدمون مؤسسة يشعرون هم أنفسهم أنها أفرغت من مضمونها، وعجوزاً مرهقاً مزعجاً لا يستمع إليه أحد. أين تاهت البوصلة، وكيف أصبح النظام القائم على القواعد-المجحفة المقبولة، مرفوضاً، وعلم مؤسسته الأولى الأزرق “فوطة غبرة”. كيف سنقنع الصبية المشتبكة، والكثير من أبناء هذا الجيل أن الميثاق الذي يبدأ بـ “نحن شعوب الأرض” يمثلهم حقاً، وهو مستسلم لقوى المصالح والتجاذبات السياسية. هل أصبحت تكلفة الاعتناء العجوز باهظة؟ وهل صار من الأجدى التخلص منه؟ وإذا تم هذا فما هو البديل؟
إن الظروف الموضوعية التي أطلقت رصاصة الرحمة على عصبة الأمم لا تختلف جوهرياً عن ظروف اليوم، فالعالم يواجه حالة استقطاب حادة. توسعت رقعة الصراعات، ولم تستطع الهيئة الأم ولا نظام القواعد، أن يحمي “شعوب الأرض” من الأوبئة، والمخاطر الطبيعية أو أن يخفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بشكل فعال… ناهيك عن الحفظ على الأمن والسلم الدوليين، مناط مهمته والغاية من وجوده. وإذا “دمرناها من الداخل” كما تطلب الصديقة الأناركية، ما هو البديل؟ أو ربما يجب أن أسأل: هل نحتاج إلى بديل؟ أضع أسئلتي بين يدي القارئ، ولا أدعي أنني أعرف الإجابة. لكنني كما الكثيرون، نشعر أن العالم يمر في مرحلة انتقالية، وما الحرب الأممية على غزة إلا أحد تجلياتها، وأحب أن أعتقد أن التاريخ سيحكم علينا غداً حسب موقفنا اليوم من القضايا الإنسانية والقيمية، وكلي أمل أن ينهض هذا العجوز وينفض عن نفسه الغبار ويطهر نفسه بدايةً من أخطائه التاريخية، ثم يعرِّف لنفسه موقفاً انسانياً قيمياً صحيحاً، أو فلينتحر!