وما زالت الحقيقة غائبة

الأب رفعت بدر
 

تكلمنا في هذا المنبر... عن المحبّة، وعن العدالة، وعن السلام، فوجدناها كلّها غائبة، أو مُغيّبة أو مُستغيبة. أما الحقيقة اليوم فالحديث عنها يضع في القلب غصة عميقة، وبخاصة في هذه الأيام التي تنحدر فيها البشريّة إلى آبار سحيقة. إنّها الحقيقة التي يموت الناس في سبيلها، وقد قال عنها سقراط ابو الفلاسفة: «راحة الحكماء في وجود الحقيقة وراحة السفهاء في وجود الباطل».

ولكن في هذا الوقت بالذات، نتحدّث عن «الباطل» الذي يلبس ثوب الحقائق المفبركة، الحقائق المشتراة، الحقائق المباعة، الحقائق الرخيصة، الحقائق التي تغلف بكلام جميل وتباع على الجمهور، وبالأخص في وسائل الإعلام التي تحاول تشويه الحقائق، أو إخفاءها، أو فبركتها، أو تقديمها بطريقة مزيفة. لذلك، نجد في الإعلام مصطلح «الأخبار المزيفة» أو Fake News.

هل هي موجودة؟ نعم وبغزارة. وهل هي موجودة في هذه الأيام؟ نعم وبشدّة أكثر. لنعد إلى 7 أكتوبر، اليوم التي تتذرع به دول وقادة كبار ودبلوماسيون وأصحاب شأن، بالإضافة إلى العديد من المجتمعات. هنالك تمّ طرح سرديّة معينة ووصل البكاء الإسرائيلي إلى العالم أجمع فهبّت الدول لكي تساعد إسرائيل وتعطيها الشرعيّة بالدفاع عن النفس. وتواصلت الوفود المتضامنة، والمشدّدة على «حق» إسرائيل بالدفاع عن نفسها.

ولكن، مع تطوّر الأمر تمّ تقديم هذه الأخبار الإعلاميّة بهذه الطريقة المغلفة، بالبكائيات واللطم والمراثي، إلى أن وجد العالم نفسه اليوم أمام دوامة عنف لا يمكن وقفها، ولا يمكن التكهّن بمستقبلها القريب، دون أن ننسى بأنّ هنالك شعبا يقتل يوميًا، وفي كل دقيقة، و تضيع أرواح بريئة. وتضيع معها الحقيقة، وما زال العالم، كما يقول الأب جوزيف سويد: «عم يتفرج، ساحب ايدو ومبنج، عم يسكر عدمعة أم، وعصرخة طفل متلّج».

لهفي عليك أيتها الحقيقة الغائبة، لهفي عليك يا من بمستطاعك أن تخلّصي العالم من كل الزيف والمغالاة والنفاق والمراءة التي تعيشها عواصم عوالمنا اليوم. ما حصل في الآونة الأخيرة، لا يمكن أن يفصل عمّا حدث منذ عقود. هذه هي الحقيقة التي على العالم أن يتذكرها، وليس أن يتلهّى في وسائل إعلامه اليوم في بعض حقائق جزئية، مقصوصة، وفرعيّة، ودعني أقول: مزيفة.

الأخبار المزيفة تصنع بالفعل أخبارًا كاذبة. والغائب الأكبر في هذه الآونة هي الحقيقة، فلعلّ العالم قد نسي حقيقة الإحتلال الذي هو أساس المشكلة، وأساس كل ما يحصل من مآسٍ في الأرض المقدّسة في هذه الأيام. لذلك، نرجو من وسائل الإعلام العزيزة، ومنها العربيّة أيضًا، ألا تنجر إلى أخبار مزيفة وأوهام مبنية على الكذب وتشرعنّ عمليات القتل على أساس أنها «ردة فعل» أو «دفاع عن النفس». وليس أقوى هنا من اقتباس ذات الجملة التي وضعها البابا فرنسيس، في رسالة الإعلام لعام 2018، بعنوان «الحقيقة تحرّركم، من أجل صحافة سلام»، حين اقتبس بدوره من دويستفسكي قائلا: «مَن يكذب على نفسه ويصغي إلى أكاذيبه الشخصية يصل إلى نقطة لا يمكنه فيها تمييز الحقيقة، لا في داخله ولا في ما حوله، وهكذا يبدأ بفقدان تقديره لنفسه وللآخرين». ألم يصل العالم المتحضّر الى هذه النقطة، في العديد من وسائل إعلامه والتي عوض أن تكون أدوات سلام، صارت أدوات تناحر وحروب مغلّفة، مع كل أسف، بالشرعية؟

نريد من إعلام العالم اليوم ألا يكون خاضعًا لا للبيع ولا للشراء، ولا لترويج لهذه السياسة أو تلك. المهمّ أن يكون الإعلام نزيهًا وقادرًا أن يصوّر الواقع كما هو، وأنّ يقف أمام رسالته المقدّسة: «إعلامًا من أجل الإنسان»، من خلال الدعوة لوضعٍ حدٍ لدوامة القتل والعنف والتهجير، وفي الحثّ على فتح ممرّات ليس لإرسال معونات الإغاثة فحسب، إنما مسارات تفضي نحو السلام والعدالة والحريّة والأمن والاستقرار.

أيتها الحقيقة الجريحة، يا من غبتِ في واحدة من أشهر المحاكمات في التاريخ، عندما قال السيّد المسيح لبيلاطس: «إنّني جئت أشهد للحق». لكنّ بيلاطس أجابه: «الحقّ، ما هو؟!» وبقي هذا السؤال مفتوحًا عن الحق الذي يعني الحقيقة والعدالة معا، لكي نجيب عليه اليوم، ولكن ليس بأخبارٍ مزيفة تشوّه الحقائق، وإنما بأخبار تضع المتلقي أمام حقائق صحيحة مئة بالمئة، وقادرة أن تبني الإنسانيّة، لا أن تهدمها.