لإجراء اللازم وحسب الأصول
مالك العثامنة
لا توجد أزمة حقيقية في قضية المطاعيم ضد الحصبة.
الأزمة الحقيقية هي في كل زوابع الغبار والضجيج التي غطت الرؤية السليمة وكشفت ضعف الثقة وهشاشة الوعي الجمعي وتستهدف المصداقية في كل شيء.
تلك أزمة يجب دراستها والتدقيق فيها ومعالجتها وتحت بند الاستعجال الذي لا يحتمل التأجيل.
حين يتم استخدام المنطق مع الحقائق خصوصا حين تكون الحقائق أرقاما ومعطيات علمية فكل ما تحتاجه حينها إطار متماسك يحمل الرواية المعرفية التي لا تحتاج كثيرا من الجهد لنشرها.
لكن، ما يحدث فعليا أن منطق الحقائق العلمية والأرقام التي لا تكذب ليس لها أي إطار يحملها، ولا تجد من يحملها أصلا، فتعجز عن الصمود أمام دفق هائل من الأكاذيب والتضليل والافتراءات المبنية على جهل تتلقفه السذاجة لكن هذا الدفق الهائل وجد من يضع له إطارا وكثيرون مستعدون لحمله.
هذه أزمة دولة – بالمعنى الشامل للدولة- وفي سياق أزمات متلاحقة يومية ومتصاعدة لا تتعلق بقطاع الصحة وحسب، بل في كل القطاعات.
وفي قضية المطاعيم التي كان من المفترض ان تكون ملفا عاديا "وناجحا كالعادة منذ عقود" فإننا نجد مشهدا غاية في الغرابة، في أحد زوايا المشهد نجد وزيرا للتربية والتعليم هو بحد ذاته أحد أهم علماء الأوبئة المتمكنين وطبيب متخصص غير أنه أحد قلة قليلة ممن يحملون رؤية سياسية متكاملة، لكنه يجد نفسه في مفارقة التصدي لدجل وشعوذة مدرسة "عبدالعاطي كفتة" التي وجدت مكانا لها في الأردن وبأوراق رسمية أنتجتها مؤسسات الدولة بطريقة الصادر والوارد وحسب الأصول.
مدرسة "الصادر والوارد وحسب الأصول" هي أيضا ما يملكه الوزير العالم من أدوات في وزارته، وهو ذات الأمر في وزارة الاتصال الحكومي التي يتصدرها أستاذ أكاديمي استطاع أن يكون إعلاميا معروفا لكنه على كل قدراته يجد نفسه محاصرا بجيوش "الصادر والوارد وحسب الأصول" التي لا تعرف غير التعليمات واللوائح الموضوعة لها، واستطاعت مع غفلة من الزمن "والتواطؤ المتراكم" أن تكتسب سلطة صناعة القرار، وهي ذات الجيوش التي تتخم وزارة الصحة حتى يجد وزير الصحة نفسه عاجزا أمام مدرسة عبدالعاطي كفتة للدجل والشعوذة التي منحتها تعليمات الصادر والوارد شرعية الوجود العلمي تحت تخصص "الهندسة" وطبعا.. حسب الأصول.
هذه أزمة حقيقية في البنية المؤسسية للدولة، تراكمت وتعاظمت وصار البحث عن علاج جذري لها ضرورة حتمية لا يستقيم معها حلول تحت عنوان "لإجراء اللازم". فهذا اللازم فضفاض ومبهم ويحتاج عقلا سياسيا لتحديده وتعريفه والتعامل معه.
نكرر أن الأزمة ليست في المطاعيم التي لا ازمة فيها أساسا، لكنها في ذلك الفراغ الهائل في البنية المؤسسية للدولة، فراغ في صناعة القرار وتسويقه وترسيخ المصداقية فيه.
أخطر ما يمكن ان تواجهه الدولة حاليا هو أن يكون البيروقراطي صانعا للقرار وبشرعية اللوائح والتعليمات حتى لو خالفت القوانين والدستور نفسه، وما حدث في قصة المطاعيم " وكل ما يحدث عموما" قضايا لها بعد سياسي وأمني، لكن علاجها تم وضعه في يد مدرسة "الصادر والوارد" وعليه فإن كل ما يحدث هو "حسب الأصول".
ألا يحق لنا أن نسأل ولو مرة: أصول ماذا بالضبط؟