منازلة الوعي الراهن
حتى الأكثر تفاؤلا لا يمكن له أن يتوقع ثورة جذرية في مخرجات الانتخابات النيابية القادمة والتي ستكون على أسس جديدة يمكن اعتبارها منهجية ثورية بحد ذاتها.
نحن هنا امام عملية تفكيك جبارة لوعي اجتماعي كامل، وهو أيضا راسخ وصلب راكمته التجارب والخيبات لعقود طويلة مضت فيما يخص الحياة الحزبية في المشهد السياسي العام.
هذا هو التحدي الأساسي الذي طالما أشرنا إلى أن تفكيكه الأساسي ومواجهته لا تكون إلا في التعليم، ونقصد هنا منظومة التعليم التي يراهن عليها من يؤمنون فعلا بالتغيير.
هذا التحدي يحمل ألغاما مرعبة في تفاصيل التجربة الحزبية القادمة، وكلها قادمة من لدن انعدام الوعي والإدراك الجمعي لمفهوم الأحزاب وضرورة وجودها كعامل بناء وتنمية حقيقي، بدون تلك الأحزاب – الصحية وكاملة العافية بمفاهيمها- لن يكون هناك ديمقراطية حقيقية ولا تداول للسلطة ولا حكومات قوية تمثل مطالب الناس ولا برلمانيين يمثلون حاجات من انتخبوهم بالمعنى الشامل للحاجات، وهذا يعني إعادة إنتاج أكثر تشوها للوضع الراهن، وإنتاج نخب ممسوخة أكثر، وواقع أكثر بؤسا.
الأحزاب التي تتشكل اليوم، ما يزال معظمها يستخدم أدوات الأمس، وتلك الانسحابات في بعضها ما هي الا انزياحات تحركها الخيبة، لعدم وجود أرضية توافق برامجي جاد وصلب وحقيقي، بل رمال متحركة من تفاهمات مصلحية تخضع دوما للأمزجة والطموحات الشخصية.
هنالك بالطبع محاولات حزبية جادة لكنها "الأقلية" في المشهد الحزبي الناشئ أمام أغلبية "مصلحية" تحاول إعادة إنتاج زعاماتها وتقديم أوراق اعتمادها كنخبة حاكمة لكن بذات عقلية الأمس وأدوات الماضي القريب التي لم تعد صالحة.
هذا إدراك قاصر عن فهم كل التغيير القادم، لكنه على قصوره سيخوض الانتخابات القادمة.
في المقابل، هناك الجهاز الإداري الضخم الذي سيدير العملية الانتخابية بأدواتها الجديدة والتي ما تزال طلاسم مبهمة أيضا للجهاز البيروقراطي الذي سيواجه ما لا يصدقه ولا يقتنع به.
وهذا له تداعياته الخطيرة حين يتقاطع أصحاب الأدوات القديمة في الأحزاب الجديدة مع مسؤولي التنفيذ الإداري في مؤسسات الدولة بكل صلاحياتهم في التعيين والنقل والإزاحة والإقصاء، لتصبح تلك أسلحة وأدوات لا تفسد القطاع العام وحسب، بل تفسد في طريقها التجربة الحزبية وترسخ نوعا جديدا من الرشوة.
الدولة- بمعناها المؤسساتي- وعقل الدولة بذات المعنى وكل الأجهزة المعنية عليها تفعيل الرقابة على كل ما يحدث من ترغيب وترهيب يمارسه النفوذ "الاجتماعي" لبعض النخب الحزبية التي لا يهمها إلا تقديم نفسها كقيادات لمرحلة قادمة، وقابلية "مطواعة" في بعض مفاصل المؤسسات بنخبها البيروقراطية ذات النفوذ "الوظيفي" لرغبات من يتقاطعون معهم في عدم تصديق "الإصلاح السياسي" كله.
الحلول ليست برقابة بوليسية أو خاضعة لأنظمة عقوبات بقدر ما هي قائمة على تكثيف عملية التوعية التي تهدف إلى إقناع كل منتسبي الإدارة العامة والبيروقراطية الرسمية أن التغيير عبر الإصلاح السياسي هو الحل الوحيد لإنقاذ الإدارة العامة في الأردن، كما هو الحل – بعيد المدى لكن الأكثر فعالية- للأزمات الاقتصادية للدولة الأردنية.
وبرامج التوعية تلك يجب أن تكون حقيقية ونابعة من صلب الإدارة العامة نفسها، لا أن تتحول عطاءات تلزيم وتنفيع تنتهي بقاعات فندقية مكيفة واستراحة قهوة وتضخم حسابات المنظمين.
لكن في أثناء ذلك كله علينا دوما أن نتذكر أن الإصلاح الحقيقي والفاعل لإنتاج تغيير حقيقي وملموس، يبقى دوما في إصلاح منظومة التعليم كله في الأردن.