ما هو أبعد من أزمة التأمينات الطبية

أحمد حمد الحسبان

قد تنتهي الأزمة بين نقابة الأطباء وشركات التأمين الصحي مؤقتا، لكنها لن تنتهي إلى الأبد. السبب في ذلك أنها أزمة متجذرة، وفي تفاصيلها ما لا يسمح لها بالانتهاء، وما يدفع إلى تجدد ظهورها ثانية في أي وقت لأنها قضية مصالح مادية بين عدة أطراف لا يستهان بقوتها، بينما المواطن هو الحلقة الأضعف فيها والذي يقع تحت التهديد بوقف علاجه. فالقضية التي نحن بصددها ليست منفصلة عن كم من القضايا الفرعية والأساسية، وفي كثير من الحالات الممتدة إلى صلب العملية الاقتصادية النافذة محليا بكل ما فيها من تقاطعات أساسها البحث عن نوافذ يمكن توظيفها دعائيا لصالح حكومة أو وزارة أو مؤسسة أو نقابة أو غيره أو إرضاء لجهة متنفذة. كما أنها جزء من حالة عامة يسهل تشخيصها من خلال تتبع مجمل القرارات المتخذة بصمت أو وسط ضجيج. وذات البعد الداخلي أو الامتداد الخارجي.

على سبيل المثال، لم تتوقف عملية الرفع عند أجور الأطباء التي ارتفعت مؤخرا إلى الضعف أو أكثر قليلا، بل توالت وصولا إلى حالة إدمان يمكن تسميتها بـ»ثقافة الرفع».

 فقد سبقها البنك المركزي برفع أسعار الفائدة لعدة مرات، وانعكاس ذلك على مجمل الشؤون الحياتية اليومية. وقبلها، ارتفاع أسعار السلع التموينية وتمسك المعنيين بها بتلك الارتفاعات إما بشكل مباشر أو غير مباشر، حيث عمد البعض من التجار وبعد استنفاذ عمليات الرفع واصطدامها بتحفظ حكومي وضغط شعبي، إلى تخفيض محتويات العبوة وبيعها بنفس السعر المرتفع تقريبا. وفي بعض الأحيان تخفيض طفيف لا يساوي قيمة فارق الوزن.

مثال ذلك ما تم في مجال تعبئة مواد السكر والأرز وغيرها من السلع الغذائية، حيث خفض البعض وزن المادة داخل العبوة وباعها بنفس السعر أو أقل قليلا. ومنها منتجات الألبان حيث خفضت بعض الشركات - دون إعلان- محتويات علبة اللبنة أو اللبن، وأصبحت 900 غرام بدلا من الكيلو مقابل عدم رفع سعرها ثانية.                                                              ومثل ذلك بعض شركات الاتصالات التي قررت رفع أسعار بطاقاتها واشتراكاتها من طرف واحد.                                                                                                                     وفي الوقت نفسه رفع أصحاب المهن أجورهم من طرف واحد وبنسب كبيرة. ما يعني أن العملية مرتبطة بعضها ببعض، وأن الحكومة - بحكم شح وسائل التدخل لديها- تغض النظر عن الارتفاعات التي أصبحت في غير قدرة المستهلك.

أما في تفاصيل موضوع التأمين الصحي، فالمدقق يتوقف عند كم من الملاحظات، أبرزها ارتفاع كلفة التأمين الصحي على المشتركين دون وجه حق. فالشركات أو المؤسسات تحصل على الجزء الأكبر من الكلفة من خلال المنتفعين لديها وتقوم بخصمها من رواتبهم، وترفع قيمة اشتراكاتها كلما ارتفعت الكلفة. بينما شركات التأمين تكاد تكون المستفيد الأكبر من تلك العملية.

ولمن لا يعلم التفاصيل، فقد ضاعفت بعض شركات التأمين من أرباحها بعد أن أقدمت على زيادة عدد الحلقات الخدمية من خلال تأسيس شركات بمسمى» إدارة التأمين الصحي»، واستعان بعضها بشركات قائمة لهذا الغرض، الأمر الذي ضاعف من كلفة التأمين بدلا من العمل على تخفيضه. وخفض الامتيازات التي يفترض أن يحصل عليها المشترك وزادت من أرباحها جراء زيادة تلك الحلقات.

فشركات إدارة التأمين الصحي لها نسبة من الأرباح تضاف إلى نسبة الأرباح التي تحصل عليها شركات التأمين، والخصومات التي تحصل عليها من فواتير الأطباء لتكون الأرباح كبيرة جدا لتلك الشركات والكلفة كبيرة أيضا على المشترك وعلى مؤسسته.

كل ذلك يلتقي مع أمور أساسية أوجدتها نصوص قانونية أعطت مقدم الخدمة الطبية الحق في تحديد أتعابه. ذلك أن نقابة الأطباء هي من يمتلك صلاحية تحديد الأجور الطبية بحكم قانونها، وبمباركة قانون الصحة العامة. وفي ذلك خلل لا يخفى على أحد، فالنقابة هي التي تمثل الجسم الطبي، وهي التجمع المصلحي لقطاع الأطباء ومن يدافع عنهم في أمورهم المهنية والمعيشية، ومن البديهي أن تنحاز النقابة في هذا البعد لصالح أعضائها. بينما المنطق يشير إلى أن تناطَ مهمةُ تحديد الأجور بلجنة من النقابة والحكومة والقطاع الخاص ومجلس النواب والنقابات العمالية.

والمطلوب مع ذلك أن يعاد النظر بقانون المنافسة بحيث يكون أكثر حساسية وفاعلية فيما يخص قطاع الخدمات إضافة إلى قطاع التجارة بشكل عام. وأن يصار إلى تفعيل قطاع حماية المستهلك ليكون أكثر فاعلية وأن يعمل مجلس النواب على تعديل نظامه الداخلي بإضافة لجنة حماية المستهلك إلى لجانه الدائمة. وبحيث يتم تعويض الخلل الحاصل في مجال الرقابة الحكومية على الأسواق، والدخول في مجالات كتلك التي نحن بصددها الآن، حيث يتعنت قطاع التأمين ويتمسك برفض تخفيض أرباحه، وتصر نقابة الأطباء على لائحة الأجور الجديدة، وتلوح بوقف معالجة المرضى اعتبارا من الثاني من أيلول المقبل ما لم تلب مطالبها. ويدفع المريض المؤمن ثمن كل ذلك رفضا لمعالجته، وتتحول المسألة إلى بعد إنساني، ووعد بأن يحصل مريض الحالة الطارئة، والسرطان والكلى على العلاج، بينما يضطر باقي المرضى إلى تحمل الألم، ودفع قيمة الفاتورة نقدا ومن ثم محاولة تحصيلها، مع أنه يكون قد دفع اشتراكه مسبقا.