شركات التأمين ونقابة الأطباء.. الخاسر الأكبر هو الوطن والمواطن

الدكتور أسامة حامد

من جديد تطلّ علينا شركات التأمين في حربها ضد الأطباء والعاملين في القطاع الصّحي بتصريحٍ يحملُ في طيّاته الكثيرَ من الوعيد والتهديد للأطباء بسبب ما أعلَنَته النقابة من وقف التعامل مع حالات التأمين ابتداءً من الأول من أيلول بعدما وصلت إلى طريق مسدود في مفاوضاتها مع هذه الشركات، حيث تتمسك شركات التأمين برفضها إصدارَ لائحةٍ جديدةٍ للأجور الطبيةِ متذرّعة بالحرصِ على المصلحة الوطنيةِ، متباكية على الأوضاع الاقتصادية الصعبة، وكأنّ الأطباء بمطالبهم العادلة في لائحة أجور جديدة هم العدو الأول للوطن والمسبب الرئيسي للأوضاع الاقتصادية الصعبة!.

 

تقوم هذه الحرب المُمَنهجة من لوبي شركات التأمين (الرّبحية) وداعميهم على استخدام مصطلحات رنّانة تدغدغ مشاعر المواطن البسيط لتجييشه ضدّ الأطباء ونقابتهم..
لست هنا في موقع المسؤولية للردّ على هكذا تصريح ولكن من منطلق انتمائي لوطني وحبّي له ومن منطلق حرصي على مهنتي وزملائي، وإلمامي بالكثير من التّفاصيل بحكم ممارستي للمهنة في الولايات المتحدة والأردن، كان لابدّ من أن أقوم بتوضيح بعض الأمور التي تخفى على الكثير من المواطنين في هذا الموضوع: 

أولا : لا بدّ من الاعتراف بأن الأطباء مكوِّن أساسي للمنظومة الاجتماعية والاقتصادية للوطن وأنّه لا بدّ من انصافهم، شأنُهم شأن أيّ مكوّن اجتماعي اقتصادي آخر، وأنّ أجرَ الطبيب يجب أن يكونَ منصِفاً وشفافاً ويراعي أهمية وحساسية الخدمات التي يقدمها الطبيب للمريض.

ثانيا: بالنسبة للائحة الأجور المعتمدة الآن والتي تدعو شركات التأمين لبقائها كما هي، فيعود تاريخها الى عام ٢٠٠٨ (ومع احترامي الشديد لواضعيها ،أجزم أنّهم لم يكن لهم اطّلاع كافٍ على التقدم الطبي الحاصل في نفس تلك الحقبة من الزمن.. فمثلاً في تخصص الجراحة العامة، في الوقت الذي كانت هناك طفرة علمية هائلة في استخدام جراحات التداخل المحدود بالمنظار في مختلف العمليات الجراحية للجهاز الهضمي (جراحات المعدة و المريء ، جراحات السمنة ، جراحات القولون ، جراحات الفتق بأنواعه بالمنظار،،الخ) لم تعترف لائحة أجور عام ٢٠٠٨ إلا بثلاث عمليات جراحية بالمنظار وهي المرارة والزائدة الدودية وفتق الحجاب الحاجز فقط! مما حرم الكثير من متلقي الخدمة من فوائد جراحة المنظار وتسبّب في عزوف الكثير من الأطباء عن مواكبة التطور الحاصل في مثل هذه العمليات، حيث تتذرّع بعض شركات التأمين بعدم تغطيتها بسبب عدم إدراجها في لائحة أجور عام ٢٠٠٨ ، والسبب الحقيقي يعود إلى  مبدأ الربح والخسارة والذي تقوم عليه هذه الشركات ضاربةً بعرض الحائط الفوائد الجمّة على المريض للتداخلات الجراحية المحدودة بالمنظار في كافة التخصصات ، وهذا مثال واحد فقط في تخصص واحد وقِس عليه كافة التخصصات الطبية.

ثالثا : بالرغم من قِدم لائحة الأجور الحالية ٢٠٠٨ والتي كانت أصلاً غير ملمّة بالتطور الطبي في ذلك الوقت (كما أسلفنا في النقطة السابقة) ، ومع التطور الطبي الهائل الذي حصل في السنوات السابقة لم يتم أي تعديل عليها على مدار ال ١٥ سنة الماضية ، ومن ممارستي للمهنة فإنّي أعلنها بأن لائحة الأجور هذه مجحفة وبشكل كبير في حقّ الطبيب والمريض على حدٍّ سواء، وأنّ القانون الذي اعتمدها لم يراعي أي مرونة في التعامل معها وتطويرها على مدى الأعوام السابقة ، وقد أدّى هذا الى جمودٍ كبير في تعاطي شركات التامين الربحية مع الطبيب والمريض وشكّل عائقاً كبيراً لتطور مهنة الطب في الأردن (وبإمكاني تزويدكم بأسماء شركات تأمين وحالات مرضية أشرفت عليها حيث رفضت تغطية تداخلات جراحية محدودة بالمنظار بسبب عدم إدراجها في لائحة ٢٠٠٨ وعدم القبول بدفع الآجر المنصف المطلوب من الطبيب على مثل هذه التداخلات).

رابعا: أنا مع قرار النقابة في التصدّي لتغوّل شركات التأمين على الأطباء ، ولكن بنفس الوقت أعتقد أن نقابة الأطباء قامت بارتكاب نفس الأخطاء السابقة  في تحديد الإجراءات الطبية وأجورها المستحقة في لائحة الأجور الجديدة لعام ٢٠٢١ ، حيث طلبت من اللّجان العلمية التابعة للنقابة تحديد الإجراءات المتعلقة في كل تخصص ووضع الأجور المناسبة حسب اللجان العلمية, وبعد مراجعتي للّائحة الجديدة ، لا زلت أعتقد أنها لا تواكب ما يحدث من تطور كبير في القطاع الطبي وتفتقد للكثير من الإجراءات الطبية ولا توجد فيها المرونة الكافية للتعامل مع ما يستجد في المستقبل، المشكلة هي نفس النهج السابق في تحديد الأجور، تم استخدامه في لائحة الاجور الجديدة وما هي إلا مسألة وقت حتى تظهر عيوبها ومحدوديتها في المستقبل القريب.

 

 
خامسا: لا أعتقد أننا في الأردن علينا أن نخترع العجلة من جديد في موضوع تشخيص الأمراض وتسمية الاجراءات الطبية وتحديد لائحة الاجور ، إنّ المتخصّصين في هذا الموضوع في العالم وبالأخص في الولايات المتحدة قد قاموا ببذل جهد كبير على مدار الأعوام  السابقة وأنتجوا مرجعيّة واحدة يتم تحديثها كل عام في تشخيص الأمراض وتسميتها  ( ICD codes )وتحديد الاجراءات الطبية  (CPT codes) وقد حدّدوا لذلك كودات خاصة تعتبر مرجعية لكل أنواع الاجراءات الطبية. تتميز هذه المرجعيات بالشمولية والوصف الدقيق لكل أنواع الاجراءات الطبية ، و التعامل مع كل حالة على حدى حسب درجة صعوبتها والحالة المرضية العامة للمريض ، فمثلاً استئصال المرارة بالمنظار لمريضة أربعينية لم تقم بعمل أي عمليات سابقة تختلف عن استئصالها لمريض سبعينيّ كان قد أجرى عدة عمليات سابقة في نفس المكان.

إن لائحة الاجور ٢٠٠٨ و ٢٠٢١ لم يتطرقوا نهائياً لمثل هذه التفاصيل، أضف إلى ذلك هو تحديث هذه المرجعيات بإصدارات سنوية لتواكب كافة التطورات في الطب.

سادسا: المبكي المحزن هو أن معظم شركات التأمين الأردنية على دراية تامة بهذه المرجعيات ويتم الرجوع إليها في الحالات المتعلقة بالمرضى المؤمنين في شركات تأمين عالمية وخليجية. لقد أدرك أشقّائنا في دول الخليج أهمية هذه المرجعيات وتم اعتمادها على المستوى الوطني لتحديد الاجراءات الطبية ولائحة الاجور في دولهم، وقد انعكس ذلك ايجابياً على قطاعهم الطبي في السنوات السابقة.

سابعا: إن اعتماد هذه المرجعيات العالمية في الأردن سيعود بالكثير من الفوائد على عدة مستويات، أهمّها توحيد تسمية تشخيص الأمراض والإجراءات الطبية مع ما هو متعارف عليه في العالم ، مما يسهل عملية التواصل مع العالم الخارجي والقدرة على استقطاب المرضى الدّوليين المؤمَّنين في شركات عالمية تعتمد هذه التسميات والإجراءات، تسهيل عملية القيام بالأبحاث الطبية السريرية باستخدام لغة تشخيص وإجراءات طبّية موحّدة ومقارنة نتائج الاجراءات الطبية في الاردن مع النتائج الدولية ، أيضاً أن اعتماد هذه الاجراءات سوف يفتح المجال إلى فتح تخصصات دراسية جديدة في الجامعات والكليات الاردنية بهدف تدريب الطلاب على هذه المرجعيات وتوظيفهم في مختلف القطاعات الطبية  العامة والخاصة كمدقّق للبيانات والاجراءات الطبية‏ICD and CPT coders ، حيث يلعبون دور محوري في التأكد من إدخال التشخيص المناسب والإجراءات المناسبة لكل مريض ، مما يضمن الشفافية التامّة للتعاملات المالية في القطاع الطبي ، ويضمن حقّ الطبيب والمريض والمستشفى وشركة التأمين دون تغوّل طرفٍ على الآخر.

والله من وراء القصد.

 

* استشاري الجراحة العامة 
البورد الامريكي في الجراحة