التوقعات الغائبة
مرّت موجة الربيع العربي الأولى بخسائر كثيرة في الدول العربية التي وقعت فيها، ونادرا ما خرجت دولة من هذه الموجة كما كانت، ربما لأن موجة الربيع ذاته كشفت الهشاشة، وكانت مثل عاصفة لا ترحم استباحت كل بنية ضعيفة ومؤقتة، وأدخلت لاعبين من كل الجهات.
هذه الموجة التي بدأت نهايات العام 2010، وشهدناها بشكل رئيسي في تونس ومصر وسورية وليبيا، واستمرت لسنوات لم يتم تركها لتنجح، إذ إن صراع الخصوم المحليين، وتدخل جهات محلية وإقليمية ودولية، وقوة الدولة العميقة في كل نظام، والضعف الاقتصادي الذي لا يحتمل أي هزة سياسية، واختلاف الشعوب على الذي تريد تحديده، وتوظيف القبيلة والأمن في صراعات الربيع العربي، كلها عوامل أدت إلى فشل هذه الموجة، وتم تحويلها إلى وسيلة عقاب للشعوب، التي تم وضعها أمام خيارين، إما الخراب القائم، أو الخراب الأكبر.
جاءت الموجة الثانية من الربيع العربي من جهة ثانية بعد عام 2019 في دول مثل السودان، والجزائر، والعراق، ولبنان، تحت عناوين مختلفة، من الخبز، إلى المطالبة بالعدالة والحريات، وكانت الموجة الثانية أضعف من الأولى، وساهمت كورونا وحظر التظاهرات بفشلها، واستطاعت بعض الأنظمة استيعابها، من خلال إقالة حكومات، كما في استقالة رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي عام 2019، مع بقاء التركيبة الطائفية والسياسية، بمعنى أن المنجز هنا كان محدودا ولغايات استيعاب الغضب، ولم يتجاوب كليا مع طلبات المتظاهرين.
هذا الكلام بعمومياته يأخذنا إلى ما هو أعمق، وإذا ما كانت المنطقة العربية سوف تشهد موجة ثالثة أوسع من الموجتين الأولى والثانية، لكن بشكل مختلف، قد يكون أكثر دموية، وفقا لبعض الرؤى، خصوصا، أن منسوب المظالم في دول كثيرة، لم يتراجع بل ارتفع بشكل حاد، ركونا من الأنظمة إلى أن هذه الشعوب العربية تعلمت الدرس، وهي تخشى أن تخسر كل شيء، مقارنة بالقليل الذي لديها هذه الأيام.
هذا الركون سطحي وغير دقيق، لأننا إذا عدنا إلى واقع الشعوب العربية منذ عام 2010 حتى عام 2023، لاكتشفنا أن هناك حالة تراجع سيئة جدا، على صعيد الوضع الاقتصادي، والحريات، واضطهاد الحكومات لمواطنيها، وإذا كانت الأنظمة تركن إلى أن الشعوب ستخشى من كلفة العودة للمطالبة بالتغيير، مقارنة بكل الذي جرى في بعض الدول قيد الخراب والتقسيم مثل ليبيا والسودان، وغيرهما، فإن تقييمات هذا المشهد تقود بالضرورة إلى أن الموجة الثالثة إذا وقعت فلن تكون مثل الموجة الأولى أو الثانية، إذ قد تأخذ شكلا مختلفا، خصوصا، أن أغلب الأنظمة لم تحاول أبدا إجراء تغييرات عميقة، بل استمرت بذات الطريقة، وربما أسوأ بكثير.
لا يمكن هنا البقاء عند فكرة واحدة تتسم بالاسترخاء يرددها السياسيون في مجالسهم، أي أنه بدون تحريك سياسي وإعلامي وتمويل مالي إقليمي ودولي، فلا يمكن لأي شعب عربي أن يتحرك، وهذا الكلام يحمل غمزا من كل الثورات العربية، باعتبارها مدارة من الخارج، أو عبر وكلاء محليين لاعتبارات مختلفة، ويعتقد هؤلاء أن خريطة المنطقة ساكنة حاليا، ولا توجد مشاريع إقليمية أو دولية لتحريك الشعوب، أو إثارتها ضد أنظمتها الحالية.
الفكرة السابقة، وإن صحت جزئيا، إلا أنها أخطر ما في هذا الملف، لأن تقييم المشهد على هذا الأساس، يتعمد إلغاء هوية أي شعب، وغياب الحقوق، وتفشي الطائفية والمذهبية، والتغول الطبقي، والتعسف الأمني، والتفرد بالسلطة، وغير ذلك، ولربما انفجار أي بلد عربي مجددا، سوف يقع تحت عناوين غير متوقعة، دون سابق ميعاد هذه المرة، ولاعتبارات محلية، سوف تعيد تجديد الربيع العربي بموجة ثالثة لا تبقي ولا تذر.
هذا الاستخلاص ليس ضربا في الغيب، لكنه في سياق التساؤلات حول السبب الذي يجعل بعض الأنظمة تضع قدماها في الماء البارد، ولا تهتم بما تريده الشعوب، استنادا إلى كون هذا النظام أو ذاك غير مستهدف من أحد، مع غياب كل محركات التغذية والتمويل الإقليمية والدولية، مع تناسي قدرة الشعوب ذاتها على تصنيع رد الفعل داخليا.
هذه توقعات تغيب عن الرسمية العربية، بعد نجاتها من كل ما حدث، لكن التوقعات الغائبة يجب أن تعود مجددا لدى مراكز القرار لصياغة واقع مختلف، وقبل فوات الأوان.