"العالم الثالث" في عصر الما – بعد - إنسانية..!

علاء الدين أبو زينة

في مستقبل الما بعد إنسان، يتصور المفكرون أن يخضع مفهوم «العالم الثالث» إلى تحول كبير في سياق إعادة تشكيل العديد من البنى المجتمعية الأخرى. ومن المتوقع أن تتحدى الما بعد إنسانية المفاهيم التقليدية للهوية، والمحدوديات البشرية والتسلسل الهرمي، بما في ذلك متعلقات التنمية الاجتماعية والاقتصادية، والتفاوتات العالمية التي تُرشد تصنيف العوالم.

ظهرت فكرة «العالم الثالث» بشكل أساسي خلال حقبة الحرب الباردة لتصنيف البلدان التي لم تكن متحالفة مع «العالم الأول» الرأسمالي (الذي تمثله الدول الغربية)، أو مع «العالم الثاني» الشيوعي (الذي تمثله دول الكتلة الشرقية). وارتبط مفهوم «العالم الثالث» بالتخلف الاقتصادي والفقر والاضطراب السياسي. وفي استشراف مستقبل الما بعد إنسانية، تتباين التوقعات بشأن «العالم الثالث» بين تفاؤل يبدو قائما على الأمل فقط، وتشاؤم متأسس على السوابق التاريخية.

في منطقة الأمل، يرى البعض احتمال أن تحسن التطورات التقنية الكبيرة المصاحبة للما بعد إنسانية ظروف المعيشة والوصول إلى الموارد في المناطق المحرومة سابقا. وقد تساعد التقنيات المحسنة في مجالات مثل الطاقة المتجددة والزراعة والرعاية الصحية والاتصالات في مواجهة تحديات التنمية طويلة الأمد. وعندما يتعلق الأمر بتعزيز القدرات البشرية الذي تعد به الما بعد إنسانية، يرى المتفائلون فرصا لتضييق الفجوة بين «العالم الأول» و»العالم الثالث». على سبيل المثال، قد يصبح الوصول إلى العلاجات الطبية المتقدمة أو التعزيزات المعرفية أكثر إنصافا لجهة تقليل التفاوتات في الصحة والتعليم.

يؤمل أيضا أن يؤشر مستقبل الما بعد إنسانية على عصر ما بعد الندرة. قد يتسم ذلك المجتمع بتعميم الأتمتة المتقدمة وتعظيم الموارد. وفي حال أنتجت تقنيات الما بعد إنسانية صناعات جديدة وفرص عمل في البلدان الأكثر ثراءً، فقد يشهد العالم نموا اقتصاديا وموارد مالية متزايدة تتيح تقديم المساعدات للدول الفقيرة والاستثمار فيها. وقد يؤدي نشر التقنيات إلى تعزيز التجارة والشراكات عبر الحدود. ويمكن أن تؤدي الوفرة الناتجة إلى إعادة تقييم الأنظمة الاقتصادية الحالية، مما قد يفضي إلى تقليل التفاوتات الناجمة عن الندرة، التي ساهمت تاريخيا في تحديد وضع «العالم الثالث» كما هو.

وقد تنطوي تقنيات الما بعد إنسانية على إمكانية معالجة المشاكل العالمية الكبيرة، مثل تغير المناخ، وندرة الغذاء، وحلول الطاقة النظيفة. وفي حال تم تقاسم هذه التقنيات وتطبيقها على الصعيد العالمي، فإنها قد تفيد بشكل خاص البلدان التي تواجه تحديات اجتماعية واقتصادية وبيئية. ويمكن أن يؤدي تطوير واستكشاف مفاهيم الما بعد إنسان إلى تعزيز التعاون الدولي وتبادل المعرفة. وربما يتعاون الخبراء من البلدان الأكثر ثراء نظرائهم من البلدان الفقيرة في السعي إلى إيجاد حلول أكثر شمولاً للقضايا العالمية.

مع ذلك، ينبغي التأكيد على أن الفوائد المحتملة للما بعد إنسانية للدول الفقيرة هي ضرب في الرمل، وأن العديد من التحديات الأخلاقية والمجتمعية والاقتصادية تحتاج إلى معالجة إذا ما أريد لهذه الفوائد أن تصبح حقيقة. يجب أن تكون المساواة، وإمكانية الوصول إلى الفوائد والاعتبارات الأخلاقية في طليعة أي تطورات تقنية لضمان أن تكون مفيدة للبشرية جمعاء، بغض النظر عن الوضع الاجتماعي والاقتصادي أو الموقع الجغرافي للمجموعة البشرية. كما ينبغي تقييم وإدارة مخاطر تفاقم عدم المساواة وإمكانية إساءة الاستخدام وغيرها من العواقب المقصودة أو غير المقصودة.

في حين يمكن أن توفر الما بعد إنسانية إمكانات تحويلية، فإنها تطرح الكثير من التحديات والشكوك. يمكن كثيرًا أن تظهر انقسامات جديدة على أساس إمكانية الوصول إلى التقنيات الجديدة، مما يؤدي إلى ظهور فجوة في «التعزيز» بين أولئك الذين لديهم إمكانية الوصول إلى التعزيزات المتقدمة وأولئك الذين لا يصلون. وقد يتطلب مستقبل الما بعد إنسانية أشكالا جديدة من الحوكمة والتعاون العالميين لمعالجة الآثار المترتبة على التقنيات الناشئة، وضمان استخدامها لتحقيق المنفعة الجماعية للبشرية. وربما يؤدي تحدي الما بعد إنسانية للنظرات التقليدية المتركزة على الإنسان، إلى إعادة التفكير في التصنيفات المجتمعية. وقد تصبح فكرة تصنيف البلدان أو المناطق إلى فئات هرمية مثل «العالم الأول»، و»الثاني» أو «الثالث» أقل أهمية.

يحتاج رصد التأثيرات المحتملة لمستقبل الما بعد إنسان –الذي يبدو شبه حتمي- إلى انتباه واع الدول لمحاولة المواكبة والتكيف في الوقت المناسب. وبالإجمال، لا يبدو أن التطورات الجارية ستنصف البلدان الفقيرة، ببساطة لأن الذي يديرها هو نفس القوى التي اعتادت على توظيف أي أدوات ممكنة لغرض الابتعاد بالتفوق، وتوسيع الفجوة وتعميق الهيمنة.