الـ"ما - بعد – إنسان" (3) ..!

علاء الدين أبو زينة

تعِد الما بعد إنسانية بتزويد البشر بقدرات بشرية معززة، مثل زيادة الذكاء، وتعزيز القوة البدنية، وإطالة العمر ومع ذلك. يثير هذا السعي إلى التعزيز مخاوف مشروعة بشأن التمييز المحتمل واللامساواة. فإذا أصبح بمقدور قلة من أصحاب الامتيازات فقط تحمل كلفة هذه التحسينات، فسيؤدي ذلك إلى نشوء طبقة جديدة من «البشر الخارقين» الذين يمتلكون القدرات للسيطرة على المجتمعات، تاركين بقية البشر في وضع دوني فاقد الإمكانيات ومهيأ للخضوع.

ويتصور مناصرو اتجاه التعزيز البشري إمكانية أن تركز الاعتبارات الأخلاقية على ضمان أن تكون التقنيات والتعزيزات المصاحبة في متناول الجميع، وألا يتخلف أحد عن الركب بسبب الحواجز الاقتصادية أو الاجتماعية. لكن من الصعب تصور أي ضمانات من هذا النوع في الحقيقة، هناك في الحقيقة أي ضمانات تحول دون سوء الاستغلال المدفوع بالأثَرة البشرية البنيوية.

بينما تتقدم تقنيات الما بعد إنسان، تتلاشى الحدود بين الإنسان والآلة باطراد. وفي هذه الثنائية المتوقعة للذات الجديدة، ثمة التساؤلات حول استقلالية الوعي البشري وهوية الكيان الجديد.

فإذا تم دمج التعزيزات الإلكترونية أو الذكاء الاصطناعي في جسد إنسان، هل سيغير ذلك إحساسه بالذات والهوية؟ هل سيبقى الجزء البشري مستقلًا وغالبًا وقادرًا على الاحتفاظ بالاختيار والإرادة؟ الآن، يحتدم النقاش حول أخلاقيات «الذكاء الاصطناعي» الذي يلعب الدور الأهم في تطوير تقنيات الما بعد إنسان. وقد لاحظ مراقبون مسبقًا تحيزات في خوارزميات الذكاء الاصطناعي، واحتمالية استيلائه على القرين البشري ومراقبته وتحدي خصوصيته. وثمة خطر تمكُّنه من الاستقلال عن الإرادة البشرية واتخاذ قرارات تغير الحياة.

وفي هذا النوع الهجين من الكائنات التي يمتزج فيها جوهران مختلفان، ليس من المعروف بعد ما إذا كانت هذه الكائنات المصطنعة ستمتلك عواطف ووعياً بالذات، وتقديراً للاعتبارات الأخلاقية والحقوق التي نعرفها الآن.

ثمة توقعات لأن يفضي التحول التطوري إلى كائنات بسمات أو قدرات تجعلهم مختلفين اختلافًا جوهريًا عن الأجيال السابقة من البشر. ويمكن أن يؤدي ذلك إلى تباعد كبير بين «ما بعد البشر» والبشر التقليديين، مما قد يؤدي إلى ظهور نوع جديد كلية. وسوف يجد البعض في هذا تحديًا لفكرة أساسية في الأديان، حين يتحكم البشر في طول العمر ذهابًا إلى نوع من الخلود، وينبغي أن ينطوي ذلك على تصنيع قطع الغيار العضوية أو التعديل على الدماغ بدمج شرائح فائقة الإمكانيات، أو حتى تصنيع مقاتل هجين لا تميته الإصابات، ولديه إمكانيات فائقة في المناورة والتدمير.

وأيًا كانت صفاتهم، سيتحدى ما بعد البشر هؤلاء الهياكل الاجتماعية ومفاهيمها القائمة، في وصفة للصراع بين البشر وما بعد البشر، وحتى بين ما بعد البشر أنفسهم.

سوف يدخل ما بعد البشر المعدّلين جينيًا ويتمتعون بصفات غير مألوفة إلى الإخلال بالتوازن الطبيعي للتنوع البيولوجي الذي أقلقه الإنسان أصلاً. وسوف يضطر المجتمع الجديد إلى محاولة إعادة تعريف الإنسان، والذات، والهدف. وقد يؤدي نوع الموارد اللازمة للتعزيزات اللاحقة للإنسان إلى زيادة التدهور البيئي، بالإضافة إلى المنافسة الجديدة على هذه الأنواع المستحدثة من الموارد التي ستكون حيوية إلى حد استدعاء نوع جديد كلية من الصراعات بمشاركين لا نعرف بالضبط ماهيتهم الممكنة.

يبقى من المؤكد أن الاتجاه نحو الما بعد إنسان بالمواصفات الموصوفة عبثًا غير مضمون العواقب بكينونة يحرّم كثير من الأخلاقيين العبث بها، لا تقل عن ماهية الإنسان وجسده وعقله وطبائعه ووظائفه وعلاقته بالعالم على كل المستويات. وإذا كان لا بد من الاستجابة لباعث البشرية إلى ارتياد المجهول بلا تفكير في العواقب، فإن الشروط الأخلاقية التي يوصى بها لهذا المسعى مستحيلة بالمطلق. للتنقل في المنطقة المجهولة لما بعد الإنسانية أخلاقياً، يُطالب المجتمع، أو في الحقيقة التنفيذيون في مشروعات التطوير شبه الإلهية هذه، بالتأكيد على إمكانية الوصول، والاستقلالية الفردية، والشفافية، والمساءلة، والاستدامة.

ويوصى بأن يتعاون صانعو السياسات، والعلماء، والأخلاقيون، والجمهور لوضع مبادئ توجيهية قوية تضمن تطوير تقنيات ما بعد الإنسان ونشرها بطريقة تفيد البشرية جمعاء وكوكب الأرض ككل، من دون عمل أي شيء يخل بهذه الاشتراطات.

كل ذلك يتطلب أن يشرف على هذا التطور ملائكة وليس البشر الذين نحن منهم والذين أشرفوا دائمًا على تحقيق عكس ذلك كله. ويغلب أن لا يعمل أحد على تكوين ما بعد إنسان أخلاقي يحقق هو نفسه ما لم يفعله الإنسان. لكن ثمة فكرة واحدة واضحة: مجرد التفكير فيما تتجه إليه الإنسانية يثير قلقًا وجوديًا حول مصير الأبناء والأحفاد -أي شيء سيكونون، وهل ستتبقى لديهم أي صلة بالأجداد البشريين؟