أزمة الطاقة الكهربائية في الأردن: عن حلٍ تحوّل لمشكلة
خلال عام 2021، لاحت في الأفق بدايات أزمة طاقة ناتجة عن العديد من الأحداث العالمية التي لا زال بعضها مستمرًا إلى اليوم؛ بدءًا من أزمة الغاز الطبيعي التي حدثت بعدما قررت الصين التخلي عن الفحم، إلى تحقيق أسعار النفط والغاز الطبيعي وأسعار الكهرباء أرقامًا قياسية، وليس انتهاءً بأزمة الطاقة في أوروبا مع اندلاع الحرب الروسيّة الأوكرانيّة، والتي تنذر بتغييرات اقتصاديّة وسياسيّة كبيرة على مستوى العالم. ومع تسارع وقع الأزمة على أسعار الطاقة وأمن مصادرها، تُظهِر الدول سباقًا محمومًا مع الزمن والمتغيّرات لتعديل استراتيجيّات الطاقة، وهو ما يستدعي إعادة النظر في أزمات قطاع الطاقة الأردني، والبحث في استراتيجيّاته، واستكشاف مدى التأثير المحتمل لأزمات الطاقة العالمية على قطاع الطاقة محليًا، وعلى القرارات التي ستتخذ في ضوء هذا التأثير.
ومع هذه التطورات، من المهم ذكر أن قطاع الطاقة الأردني يعاني أصلًا من أزمة عميقة، فمثلًا حققت شركة الكهرباء الوطنية عام 2020 خسائر قدرها 61.7 مليون دينار، رغم انخفاض تكلفة الطاقة الكهربائية بنسبة 9.2% بسبب هبوط أسعار النفط والغاز عالميًا ذاك العام. وهذه الخسائر بدأت بالتضاعف منذ عام 2021 مع الارتفاعات القياسية في أسعار الطاقة الأوليّة في العالم، والتي تزامنت مع بروز جملة من المشكلات والأخطاء الاستراتيجيّة الجديدة في القطاع. ما وسّع الهوّة بين إيرادات الشركة وتكاليف إنتاج الطاقة المرتفعة. والنتيجة تعميق المشاكل المالية للقطاع والخزينة، لتصل خسائر قطاع الكهرباء كما هو متوقع هذا العام إلى نصف مليار دينار، بينما يتوقع وزير الطاقة والثروة المعدنية صالح الخرابشة أن تصل خسائر القطاع المتراكمة إلى 10 مليارات دينار بحلول عام 2030.
أعادت الخسائر الجديدة للحكومة في قطاع الطاقة صندوق النقد الدوليّ وضغوطاته إلى الواجهة، حيث وضع الصندوق في تقارير «مراجعة الأداء» المرتبطة بالتسهيل الائتمانيّ الممنوح للأردن، مجموعة من الملاحظات والتوقّعات حول خسارات شركة الكهرباء الوطنيّة، قدّرها في مراجعته الثانية عام 2019 بحوالي 0.9% سنويّا من الناتج المحلي الإجمالي في الأعوام ما بين 2021 و2024، فيما كانت 0.2% عام 2018. ليعود في مراجعته الخامسة عام 2023 وينتقد أداء القطاع بشدّة بعد ارتفاع خسائر الشركة الوطنيّة، ويضع «خطة عمل» يتوجّب على القطاع تنفيذها لتعديل أوضاعه الماليّة، من خلال تحسين حجم الإيرادات، وتقليل التكاليف المترتبة.
أورد الصندوق في مراجعته الأخيرة سلسلة من النقاط التي عزا إليها ارتفاع تكاليف إنتاج الطاقة محليّا، تكرّر ذكرها والتشديد عليها في مراجعات سابقة، كالمشاريع التوليديّة الجديدة (وخصّ بالذكر مشروع الصخر الزيتي)، وضعف الطلب على الكهرباء. لكن الجديد هو النقد الحاد الذي يوجهه الصندوق لشركات توزيع الكهرباء -التي كانت قد خُصخصت عام 2007 هي وشركة التوليد المركزية، بمباركة وحث من الصندوق والبنك الدوليين- إذ يذكر التقرير أنّ ربحيّة شركات التوزيع أصبحت تشكل ضغوطًا كبيرة على الشركة الوطنية، وأنّ معدّلها أعلى من ربحيّة غالبية القطاعات في الأردن (باستثناء التعدين)، رغم تحمّلها مخاطر استثماريّة صغيرة جدًا. فبحسب رخصة شركات التوزيع مع هيئة تنظيم قطاع الطاقة والمعادن، تحدد نسبة الأرباح مسبقًا وبشكل مضمون سنويّا، لذلك لم يكن هناك حافز لتحسين الأداء، وبدلًا من ذلك، حسب تقرير الصندوق، فإن فواقد الطاقة وتكاليف هذه الشركات ارتفعت بشكل ملحوظ، ما أجبر الهيئة على تخفيض سعر بيع الطاقة لشركات التوزيع حتى يتسنى لها تحقيق الربح المتفق عليه، حيث انخفضت تعرفة الجملة من قرابة 80 فلس/ك.و.س عام 2016 إلى 63 فلس/ك.و.س عام 2022.
هذه النتائج كانت متوقعة ومتوافقة مع ما جاء به تقرير التخاصية الحكومي الصادر في عام 2014، حيث ذكر أن «مراجعة تجربة بيع الحكومة جزءًا من ملكيّاتها في إنتاج وتوليد وتوزيع الكهرباء لا تُظهر أنّ هذه العمليّات حقّقت الأهداف الاقتصادية المرجّوة منها»، وأنّ ربحيّة هذه الشركات لم ترتبط بزيادة الكفاءة أو الإنتاجية، وأن معدل عائدها السنوي «بلغ في المتوسّط 20%، وهذه النسبة تعتبر مرتفعةً لشركات لا تتحمّل حجمًا كبيرًا من المخاطر الاستثماريّة كون مبيعاتها وأرباحها مضمونة». لكن رغم ما يتبدى من توابع سلبية لخصخصة قطاع الطاقة الأردنيّ، لا يشير الصندوق للخصخصة بكونها العلّة، إنما يلقي باللوم على هيئة تنظيم الطاقة لضعف ضوابطها، ويوجهها خلال خطة العمل الجديدة للقطاع، والتي تعهّدت السلطات الأردنيّة بالسير وفقها حسب الصندوق، وذلك بوضع مؤشرات أداء لشركات التوزيع بهدف تقليل الفاقد الكهربائي وضبط النفقات والتكاليف التشغيلية وتخفيض السرقات.
من ناحية أخرى، تتضمّن خطة الصندوق للقطاع مقترحًا جديدًا للتعرفة الكهربائيّة قُدّم خلال شهر أيّار الفائت، سيغيّر أسعار الكهرباء وطريقة فوترتها بشكل جذري، ومن المتوقّع أن يرفد الشركة الوطنية بـ50 مليون دينار، بحيث سيحوّل التعرفة من شرائح تصاعديّة حسب حجم الاستهلاك، إلى تعرفة متغيّرة حسب وقت الاستهلاك، أي أنّنا مقبلون على رفع جديد وواسع لأسعار الكهرباء محليًّا.
ويذكر التقرير أن مجموعة الإصلاحات المأمول تنفيذها في قطاع الطاقة الأردنيّ ستحصّل إيرادات إضافية بقيمة 90 مليون للشركة الوطنيّة مع نهاية عام 2023، و135 مليون دينار مع نهاية عام 2024، وهو ما يعيدنا إلى مشهد ما بعد أزمة انقطاع الغاز المصريّ عقب تفجيرات 2011، وتطلعات البنك وصندوق النقد لإصلاح قطاع الطاقة الأردنيّ آنذاك بالتركيز على تحرير سوق الطاقة الأردنيّ وتعديل التعرفة الكهربائيّة، لكون الدعم الحكومي للمشتقات والكهرباء هو جلّ مشكلة ارتفاع تكاليف إنتاج الكهرباء، حسب تصوير المؤسستين في عام 2015.
تعديلات التعرفة المرتقبة تعيد للأذهان موجة الاستياء والرفض لتغيير أسعار الكهرباء بعد إعلان الحكومة تطبيق التعرفة الجديدة في نيسان 2022، والتي صرّح على إثرها رئيس لجنة الطاقة النيابية النائب فراس العجارمة بأن حلّ مشاكل الطاقة لن يكون على حساب المواطن برفع جزء من الدعم، وأن الحكومة مطالبة بدلًا من ذلك بتقديم مشروع لإزالة تشوهات اتفاقيات الطاقة واتفاقيات شركات الكهرباء الخاصة، وهذه إشارة قد تكررت مؤخرًا في التصريحات النيابية التي ترى أن إصلاح القطاع يبدأ من قطاع التوليد واتفاقيّات شراء الطاقة طويلة الأمد التي وقعتها الحكومات المتعاقبة، والتي وصفها النواب بالمجحفة والسيئة وغير المخطط لها، والتي تسبّبت في مشكلة «فائض في طاقة» لا تلزمنا، أي أن مكمن الخلل هو تكاليف إنتاج الطاقة المرتفعة، وهو ما يخلّف خسائر باهظة.
كما أعلنت الحكومات الأخيرة أنها بصدد مراجعة جميع اتفاقيات الطاقة، ووضعت ذلك هدفًا في استراتيجيّة الطاقة 2020-2030، بما قد يعيد التوازن بين إيرادات شركة الكهرباء الوطنية، وتكاليف وأرباح شركات التوليد الخاصة. وقد يبدو هذا الطرح متوافقًا مع ما جاءت به تقارير صندوق النقد التي ركّزت على أنّ تكلفة مشاريع توليد الكهرباء الجديدة هي أكبر مسبّب لارتفاع كلفة إنتاج الطاقة الكهربائيّة، لكن الصندوق خصّ بالنقد مشروع الصخر الزيتي، دون عرض تكاليف وآثار جميع عناصر القطاع التوليديّ -الذي يتضمّن اتفاقيّات الغاز المختلفة وقطاع الطاقة المتجددة- متغافلًا عن التبعات السلبية لمجموعة التعاقدات التي دخلت بها الدولة الأردنيّة سابقًا.
يمكن القول إنّ أزمة انخفاض إمدادات الغاز المصري عام 2011 والخسائر الفادحة التي تكبّدتها الدولة نتيجة لذلك كانت نقطة التحوّل الأكبر في نهج إدارة قطاع الطاقة الأردنيّ واستراتيجيّاته، خاصة فيما يتعلّق بالخليط التوليديّ، حيث حوّلت جميع توجّهات الدولة من اعتماد كبير على مصدر واحد رخيص الثمن في إنتاج الطاقة الكهربائيّة، إلى اعتماد سياسة تنويع مصادر الطاقة وأشكال توليدها واستغلال المحليّ منها بشكل كثيف، ليصبح التوليد خليطًا من المحطّات التقليديّة (بخاريّة، غازيّة، دورة مركّبة) العاملة بشكل أساسيّ بالغاز وبعض وحدات الديزل، ومؤخرًا بالحرق المباشر للصخر الزيتي، ومحطات الطاقة المتجددة باستغلال الرياح والماء والشمس، إضافة لكميّات محدودة من الطاقة المشتراة من الربط الكهربائي مع دول الجوار (مصر على وجه التحديد).
وفي تقييم منهجيّة الحكومة في تنويع مصادر الطاقة تطرح على الدوام ثلاثة أسئلة أساسيّة: هل مصادر الطاقة الجديدة ذات مأمونيّة عالية تحمينا من خطر الانقطاعات ونقص الإمدادات؟ وما الأثر الاقتصاديّ لهذه المصادر على فاتورة الطاقة والاقتصاد؟ وهل وقعت الحكومات فعلًا في فخ «فائض الطاقة» ما يكلّف الشركة الوطنيّة مزيدًا من الخسائر؟
انطلاقًا من هذه الأسئلة، ستعرض هذه السلسلة أزمة قطاع التوليد الكهربائيّ في الأردن، والأثر الاقتصادي المترتب على التعاقدات طويلة الأمد الموقعة مع شركات التوليد. إذ بدأت هذه المرحلة من الأزمة تتبدى مع اتخاذ استراتيجية تنويع مصادر الطاقة، والتركيز على المحليّ منها كمحور أساسيّ لأمن الطاقة الأردني خلال السنوات الأخيرة، ما قاد إلى الدخول في اتفاقيات مكلفة ومحفوفة بالمخاطر، من اتفاقيّات الغاز «الإسرائيلي»، إلى مشروع الصخر الزيتي، إلى قضيّة التحكيم مع شركة العطّارات، فضلًا عن قطاع الطاقة المتجدّدة، الذي شهد مشكلات واختلالات تنظيميّة أدّت لتفاقم خسارات الدولة فيه.
دخل الأردن هذه الاتفاقيات دون تخطيط دقيق لحجم هذه المصادر وتكاليفها وتعاقداتها، أو لآثارها الفنيّة وضوابطها التشريعيّة، ودون ربطها بشكل فعليّ مع نسب النمو في الطلب الكهربائي، التي كانت قد تراجعت مع تراجع نسب نموّ الاقتصاد المحليّ، ما سبب نموًّا تضخميًّا في حجم القطاع يفوق حاجة الأردن الاستهلاكية، وتبعات اقتصاديّة كبيرة على الدولة إيجاد حلول لها، ومنافذ لتخفيف تكاليف إنتاج الطاقة.