المنشأ والمنقول: إشكالية معرفية..!
في القرآن الكريم، قال تعالى عن قوم نبي الله، هود: “قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ”. وقال عن موقف قوم صالح من نبيهم: “أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ”.
هذان مثالان فقط من القرآن الكريم، ربما يصلحان للتمثيل على ما يقصده هذا المقال من فكرة المُنشأ والمنقول. في هاتين الآيتين، نسمع كلاما سلبيا جدا عن أنبياء، قالته فيهم أقوامهم. وتقص علينا الآيات الكريمة المذكورة حدثا، كما حدث. وبالتأكيد، لا يمكن التفكير في أن سبحانه وتعالى قصد إلى ذم أنبيائه بنقل هذه المواقف. كما لن تعني تلاوة هذه الآيات في الصلاة، أو في أي موقف، تبنيا لموقف قومي هود وصالح. ولن تكون على القارئ والراوي مسؤولية يحاسَب عليها لمجرد نقل قول، وليس إنشاءه، منسوبا إلى صاحبه، كما هو.
ثمة قاعدة: “ناقل الكفر ليس بكافر” -ويعبر عنها أيضاً بقول “حاكي الكفر ليس بكافر”، وردت على لسان بعض من أهل العلم. وتحكم معظم المقاربات عليها بالصحة، ولو أن بعضا يشترك أن يحكي الناقل الكفر فقط، أو يحكيه ويرد عليه من دون أن يقرّ به ويوافق عليه صراحة. و”مثل هذا النقل في القرآن والسنة كثير”، كما يشير المعلقون. وفي هذا الحكم منطق صريح.
يصبح الأمر معضلة معرفية عندما تتبنى الثقافة السائدة لا يميز بين الإنشاء والنقل. في أحد المواقف، كنتُ أحلل لطلابي مسرحية “موت بائع متجول” للكاتب الأميركي آرثر ميلر. وكما يقترح العمل، فإن أحد محاور الحبكة يتعلق بالفرز الطبقي ومعضلات الطبقات الوسطى في المجتمع الرأسمالي. وعندما ذكرت ذلك، رفع أحد الطلبة يده، ليسأل: أستاذ، هل أنت شيوعي؟ وكان استدلاله مبنيا على أنني استخدمت مصطلحات، مثل الصراع الطبقي والرأسمالية، التي تصوّر أنها تنتمي إلى خطاب الشيوعيين بالضرورة. فإذا رددت هذه المصطلحات، فلا بد أن أكون شيوعيا. لم يفكر الطالب في أنني ربما أنقل فقط إحدى المقاربات التحليلية للمسرحية، من دون أن أكون منشِئا لها بالضرورة، ومن دون حتمية الانتماء إلى مذهب أيديولوجي إذا رددتُ مقولاته. بها.
على مستوى مختلف، سمعت من شخص مطلع عن حيرة “المجلس الأعلى للترجمة” في مصر عندما فكر في ترجمة كتاب داروين “أصل الأنواع”. كانت المعضلة هي أن الجمهور يغلب أن يتهم القائمين على الجهد بالإلحاد والتجديف، لأنهم ينقلون “الكفر” إلى الثقافة العربية الإسلامية بتعريضها إلى تفسير آخر، غير لاهوتي، لنشأة وتطور الحياة. وفي سياق قريب، راسلني أحد القراء معاتبا على استخدام كلمة “إرهاب” لوصف المقاومة الفلسطينية. وكان ذلك في مقال مترجم فيه اقتباس لبنيامين نتنياهو ورد فيه الوصف على لسانه، وبين أقواس النص. وكأن القارئ أراد أن أكتب، مثلا: وقال نتنياهو: “واستشهد المناضل الفلسطيني الذي قام بالعملية الفدائية على يد جيوش الاحتلال”، بدلا من “قُتل الإرهابي الفلسطيني الذي قام بالعملية التخريبية على يد جيش الدفاع الإسرائيلي”. وبخلاف ذلك أكون مسيئا للنضال الفلسطيني، حسب القارئ. (بالمناسبة: هذا مذهب في الترجمة، حيث يضيف المترجم، مثلا، إلى قول مستشرق داخل أقواس النص: “النبي محمد صلى الله عليه وسلم” بينما المستشرق المعادي لا يصلي ولا يسلم في الحقيقة.
وإذن، ماذا ننقل إذا كنا عُرضة لتحمُّل مسؤولية المُنشئ عندما ننقل فحسب؟ العالم مليء بالمعرفة. وما تزال البشرية كلها عاجزة عن فهم حركته ومحاولة تفسيره. ومهما قرأ المرء من مقاربات، فإنه سيظل يصادف صعوبة في تكوين نظرة عالمية –ضرورية وجوديا للبقاء في صراع يغلب أن تحسمه المعرفة بالذات.
ينبغي أن تُنقل المعرفة عن طريق الكتُب، المجلات، المحاضرات، المدارس والجامعات، والإعلام بكل أنواعه. فإذا كانت كل هذه الوسائل خاضعة لرقابة رسمية واجتماعية ودينية و”أخلاقية” وكل أنواع الوصايات، بحيث يُحاسب ناقل المعرفة وكأنه صانعها الأول، أي نوع من الموقف العالمي ينبغي أن يتشكل لدى الجمهور؟ إن ما يحدث عندئذ هو موقف النعامة والرمال. إنه الموقف الذي يجعلها صيدا سهلا جدا لأنها تظن أنها عندما لا ترى الأشياء، فإن الأشياء تصبح غير موجودة. وهو موقف لا يمكن وصفه بأقل من الغباء المطبق.
إننا أمام مشكلة أن أهم القراءات والتأملات والنظريات الجديدة والتحليلات في العالم تُقحَم في منطقة الممنوعات، وأننا نحاسَب على نقلها إذا حاولنا ذلك. ومن المؤكد بلا جدال أن هذه النتاجات المعرفية مفيدة جدا –بل وضرورية- لمعرفة أين وصل العالم، كيف يرانا، وأين ينبغي أن نتحرك فيه. إنك إذا أغلقت أذني الناس وأعينهم عن العيوب التي يراها الآخرون فيهم، فكأنما تُسلمهم إلى العمى عن هذه العيوب. وإذا أخفيت عنهم التاريخ كما يكتبه الآخرون عنك، وكيف وضعوك فيه، فإن ذلك لا يلغي التاريخ بقدر ما يجعل جمهورك جاهلا بشدة.
باختصار، نجد أنفسنا، في الثقافة والإعلام والتعليم ووسائل نشر الخطاب، مُجبرين على إخفاء أفضل ما يصل إلى أيدينا من المعارف عنا، لأن سماعها لا يروق للرقيب. وللأسف، سنظل ننظر حولنا وخلفنا نظر الخائف لدى نقل ما نعرف، على قاعدة مسك اللسان لكي يسلم الرأس. وهو موقف مؤلم، مثل العاجز المشلول فاقد النطق الذي يرى ويسمع، لكنه لا يستطيع أن يشارك أو أن يفيد بتحذير مستحق أو اقتراح. وإذا كان ثمة وصفة للبؤس المعرفي والخراب الثقافي –والمادي- فهو هذا الإسكات تحت تهديد الاتهام بالكفر، أو تهديد الأمن القومي.