لبنان وفكرة إرادة المقاومة..!

من المفارقات الجديرة بالانتباه في العالم العربي الغريب، أن لبنان، الصغير سكانا ومساحة وإمكانيات، هو الجهة العربية الوحيدة التي يعمل لها الكيان الصهيوني أكبر الحساب. وبقدر ما هو البلد الصغير العزيز عصي على الترتيب لكثرة مداولاته التي لا تصل إلى أي مكان، فإنه يقدم درسا بالغ الأهمية عندما يتعلق الأمر بموازين القوة الإقليمية والصراع مع النقيض الحتمي الصهيوني (أو أي منافس أو نقيض): ما يخيف العدو فوق كل شيء هو إرادة مقاومته، واجتراح السبل لتسليح هذه الإرادة.

لقد استطاع لبنان تحرير أراضيه التي احتلها الكيان الصهيوني في العام 1982. ليكون بذلك الدولة العربية الثانية التي استطاعت تحرير أراضيها من العدو بالحرب، بعد مصر في العام في حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973. وهو الوحيد الذي يستطيع الآن أن يهدد الكيان بالحرب ويكون لتهديده معنى؛ أو أن يمنعه على الأقل من شن حرب من دون حسابات. وهو الوحيد الذي استطاع تهديد العدو بتدمير منصاته لاستخراج الغاز من المياه الفلسطينية المسروقة، وأن يجبره على إيقاف العمل فيها حتى يقدِّم ضمانات للبنان باستخراج غازه من مياهه بلا تهديد. وهو البلد العربي الوحيد الذي لا يستطيع جنود الكيان أن يناموا على الحدود معه قريري العين.

إذا وضع المرء ثنائية سنّي/ شيعي، غير المتعارضة جوهريًا، جانبًا ونظر إلى ثنائية العرب/ الكيان الصهيوني المتعارضة جوهريًا، فسوف سيتخلص من أي مؤثرات ربما تحدد نظرته لمعادلة المقاومة/ الخضوع عندما يتعلق الأمر بالصراع العربي/ الصهيوني. ويمكنه تحكيم معيار يصلح للقياس إلى حد كبير عندما يتعلق الأمر بمصلحة الشعوب العربية: إذا كان التكوين المعني مستهدفا بالعداء من الغرب والكيان الصهيوني، باعتباره يشكل تهديدا لهما، فإنه يستحق، كحاصل جمع، أن يُصنف في موقع نقيض القوى المعادية لآمال ومصالح الشعوب العربية، وبالتالي كحليف. وثمة انتباه متأخر الآن إلى ضرورة حل التوتر غير المفيد والمضخم بين السنة والشيعة الذي أضرّ كثيرا بالمصلحة العربية.

يثير هذه التأملات مرور الذكرى 17 لحرب لبنان الثانية، بين المقاومة اللبنانية والكيان الصهيوني، التي بدأت في 12 تموز (يوليو) 2006 وانتهت في 14 آب (أغسطس) 2006 باتفاق لوقف إطلاق النار بوساطة من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. ولم تكن الحرب متكافئة تمامًا. فقد خسر لبنان نحو 1000 شخص في حين خسر الكيان 126، بالإضافة إلى أن الدمار في البنية التحتية اللبنانية كان كبيرا. لكن معظم المراقبين يجمعون على أن نتيجة تلك الحرب كشفت عن أوجه قصور في الاستراتيجية العسكرية للكيان الصهيوني وأثارت تساؤلات حول فعالية عملياتها العسكرية. ومنذ ذلك الوقت، يفكر الكيان ألف مرة قبل التصرف ضد المقاومة اللبنانية واستفزاز رد منها. كما يعرف الجميع أن المقاومة اللبنانية استطاعت الآن بناء منظومة قتالية، سواء على مستوى كفاءة الأفراد أو الصواريخ الدقيقة طويلة المدى، أفضل بما لا يُقاس مما كان لديها في 2006، لتحقق بذلك نوعًا من «توازن الرعب» الذي عجزت عنه العرب مجتمعين. وثمة درس مستفاد من هذا أيضا، هو أن الحصول على السلاح يظل ممكنا عندما تتوفر إرادة القتال، برغم كل أشكال الحصار التي يمكن تصورها.

في لبنان الآن، يناقشون الفكرة المتداولة حول تجريد المقاومة اللبنانية من أسلحتها الذي تطالب به جهات لبنانية متعددة. ويلاحظ مراقبون، منهم مسيحيون، أن القوى العالمية التي لن تسمح طوعا بوجود أي قوة يمكن أن تهدد الكيان، لن تسمح بأن يمتلك الجيش اللبناني الصواريخ والأسلحة التي لدى المقاومة الآن. ويستشهد هؤلاء المراقبون برفض الولايات المتحدة منح الجيش اللبناني أي أسلحة ذات قيمة، أو حتى السماح لمدار نفوذها الأوروبي من تزويده بهذه الأسلحة. وهذا هو سبب السخط الكبير على لبنان الذي استطاعت بعض مكوناته تقوية نفسها –والبد- من مصادر أخرى. وهو السبب أيضا في استهداف لبنان بنزع الاستقرار وتحريض الانقسامات، فيدفع بذلك ثمن محاولته، بغض النظر عن الكيفية، أن يكون ندا للكيان الصهيوني. ولا تسلم كل دولة عربية أخرى من إخضاعها لأي من الوسائل التي تحرمها من أسباب القوة.

في «حرب لبنان 2006»، تقول الكثير من المصادر أن الكيان كان الطرف الأكثر حرصًا على وقف القتال في ذلك الوقت، وتقول التطورات اليوم أنه لم يتمكن من تحقيق أهدافه في تلك الحرب. اليوم، يوسط الكيان مختلف الجهات من أجل إزالة خيمتين نصبتهما المقاومة على الحدود معه ولا يجرؤ على «اجتياحهما». وفي المقابل، يطالب اللبنانيون بإعادة الجزء الشمالي من «قرية الغجر» اللبنانية التي استولى عليها الكيان في انتهاك للاتفاق الدولي بشأن الحدود. كما منع اللبنانيون الكيان قبل أيام من قلع شجرة لبنانية بمد ذراع جرافة من فوق السياج الحدودي السلكي. وهذه حالات فريدة في الصراع مع العدو الذي لم يحتد إظهار خوفه من أحد. وربما ينبغي أن يكون أول المتعلمين من هذه المعادلات هو القيادة الفلسطينية التي تراهن على خيارات ليس منها المقاومة المسلحة في الصراع مع العدو. 

عربي/ صهيوني، فإنه ينبغي أن يعترف

بالأمس، مرت ذكرى «حرب تموز» بين لبنان والكيان في العام 2006. ويراجع المراقبون تلك الحرب من مختلف الزوايا، بعضهم من باب انتقاد المقاومة اللبنانية على خوض حرب مع «القوة العسكرية الأولى في المنطقة» وتحمل الخسائر، والبعض يحسبون الأرباح والخسائر الإستراتيجية لكلا الجانبين.