هذه العقدة التي تستحكم بنا
مناسبة الكلام، ما تراه من مواصلة الناس لذات الطريقة هنا في الأردن، إذ على الرغم من كل التحذيرات من دراسة تخصصات مثل الطب والهندسة، مثلا، الا أن الأهالي يزرعون في الابناء منذ طفولتهم أن هذا سيكون طبيبا، وذاك على ما يبدو مهندسا، فتتعاظم العقدة، عقدة اللقب، وتتحول إلى مطلب شخصي في مجتمعات لا تلتفت لكل الأرقام التي تنهمر عليها ليل نهار.
يبلغ عدد طلبة الطب في الأردن عشرين ألفا تقريبا، ومثلهم عشرين ألفا يدرسون الطب خارج الأردن، وكل هؤلاء لا يجدون أصلا فرصا للتدريب في المستشفيات قليلة العدد، ولو وجدوا فستكون هذه الفرص بلا دخل مالي، بما يعني أن طالب الطب أمامه من عشرة إلى إحدى عشرة سنة حتى يبدأ بقطف رزقه، هذا إذا تيسرت الأمور أصلا، وحين تعلن الجهات المختصة أن هناك عدة آلاف من طلبة الطب عاطلين عن العمل، ولا يجدون أي فرصة، لا يستمع اليهم أحد، لان القصة نهاية المطاف خيار شخصي، لا يمكن لأحد منعه أو التحكم فيه.
هل هي عقدة اللقب، ام انها قناعة اجتماعية أن الطبيب أعلى مرتبة في السلم المهني والاجتماعي، أم انها مجرد مفاخرة بين الأهل والجيران، أو انها رغبة شخصية لا يمكن التقليل من اهميتها واتهام صاحبها بعدم الجدية، وقلة الخبرة، والجهل والعدمية، ام أن الخيارات المتاحة قليلة أصلا، بما يفسر دراسة كثيرين لتخصصات لا يريدونها ولم يجدوا بديلا عنها.
اسألوا النقابات المهنية واذهبوا إلى كل احصاءات المهن ، من دارسي الطب، إلى الهندسة، مرورا بالمحامين، والصحفيين وغيرهم، ستجدون بطالة بعشرات الآلاف في كل تخصص، فوق كارثة التخصصات الإنسانية والمالية، وستذهلون من الأرقام، بما يؤكد تعثر مستقبل كثيرين، وانخفاض الدخول، وعدم وجود آفاق مهنية أو اقتصادية في بلد يفيض بخريجي الجامعات.
هل تكمن المشكلة في عدم القدرة على التغيير في المؤسسات الجامعية التي لا تجدد تخصصاتها كما يجب وتوفر تخصصات جديدة ذات مستقبل ودخول وتتلاءم مع التغيرات في هذه الدنيا، ام أن الناس يميلون فقط لخوض ما يعرفونه حتى لا يتورطون فيما لا يعرفونه ويندمون لاحقا، كما أن إصرار الناس على ذات التخصصات، أمر محير حقا، لان العبرة نهاية المطاف ليست باللقب، ولا بالوجاهة الاجتماعية، والعبرة تكمن في حمل شهادة جامعية في تخصص يحبه المرء، توفر له دخلا جيدا، وتكون مهنته قابلة للتطور بشكل طبيعي ومتدرج.
القصة لا تقف عند هذه الحدود، فالازمة تدمر كل البنى الاجتماعية والموارد البشرية في الأردن، ويكفي ما نراه من عشرات آلاف الخريجين بلا عمل في تخصصات اللغة العربية، اللغة الانجليزية، الجغرافيا، التاريخ، علم النفس، معلم صف، وغير ذلك من تخصصات إنسانية، لا تعرف لماذا لا يتم وقفها لسنوات حتى تستوعب البلد كل هذه الأمواج، التي لا تجد عملا، وان وجدت فسيكون بدخل قليل، لا يغطي أجور النقل ووجبة الافطار، وكلفة الاتصالات والسجائر.
أنا هنا لا أنكر على الناس حقهم في فعل ما يريدون، لكنك تأسف بشدة حين ترانا مجتمعا يتفاخر بكونه الأكثر تخريجا للجامعيين في الشرق الأوسط، لكن لا أحد يحدثك عن جودة التعليم ذاته، ولا عن مستقبل التخصصات ذاتها، ولا عن التنافسية، ولا عن الجانب الاقتصادي في كل تخصص، وكثيرا ما تكتشف ان من يعمل بتخصصه، قد لا يسترد كلفة تعليمه الا بعد سنوات طويلة، وهذا يعني ان خياراته لم تكن منتجة اقتصاديا، وخضعت للمزاج أو الهوى.
نحن هذه الأيام، في دوامة التوجيهي، وإذا كانت الجهات الرسمية تتفرج على المشهد دون تدخل، وتترك كل هذه الأجيال لمصيرغامض، فعلى الأهالي والطلبة التنبه إلى أين يذهبون، وتخصيص نصف ساعة من وقتهم الثمين لقراءة واقع التخصصات الجامعية.
لقد آن الاوان أن يخطط الطلبة لمستقبلهم على أساس اقتصادي منتج أولا وأخيرا، فيما كل عقد الألقاب والوجاهة وارضاء الوالدين لغاية الفخر الاجتماعي، لا تقدم ولا تؤخر.
نحن ننحر مواردنا البشرية دون أن يرف لنا جفن.