تعارض مصالح في فلسطين..؟!

علاء الدين أبو زينة

تعرض فيديوهات متداولة بشأن عملية الكيان الوحشية الأخيرة في جنين مواطنين فلسطينيين يطردون ممثلي السلطة الفلسطينية الذين جاءوا لتقديم العزاء بالشهداء، معلنين بذلك أنهم ضيوف وليسوا من العائلة. ويعبر هؤلاء الفلسطينيون المقاومون المكلومين عن مدى الانفصال حد التناقض بين «القيادة» والشعب، سواء في الداخل المحتل أو الشتات –بمظاهر وتداعيات أسوأ بكثير من انفصال القيادات في العالم العربي عن شعوبها عندما يتعلق الأمر بفلسطين.

إذا كان هناك أي تبرير ممكن لتصرف القيادات الأخرى بهذا الخصوص على أساس المصالح القطرية –أو بالأحرى مصالح النخب الحاكمة- فإن مثل ذلك غير مقبول ولا يمكن تبريره في الحالة الفلسطينية، ببساطة لأن مواقف القيادة الفلسطينية المنفصلة ستعني الدم، حرفيا. عندما يُسفك دم الفلسطينيين على أرضهم في مناطق «السلطة»، بينما أشقاؤهم المسلحون في «الأمن» يتفرجون، سيكون هذا الشاهد، «المحايد»، مشاركا بالسكوت على الأقل، إن لم يكن متواطئا بالموافقة.

أمن مَن؟ يفترض أن يكون الأمن بالنسبة للفلسطيني أمن الفلسطينيين. ولكن، يبدو أن ثمة تعريفا مُكيفا حيث لا يمكن التكييف لمفهوم الأمن الذي يختبئ خلفه المتخاذلون: أمن الفلسطينيين حماية أرواحهم غصبا، بمنعهم من فعل أي شيء يهدد أمن العدو بحيث يستهدفهم. أي أن وظيفة «الأمن» هي إحباط المقاومة، والترويج لفكرة البقاء بأي ثمن، حتى لو كان تسليم الفلسطينيين ممتلكاتهم للعدو الذي لا يتوقف عن مصادرتها؛ والترحيب بالمستوطنين الذين يأتون لقطع وحرق أشجارهم وبيوتهم، ومساعدة العدو على تنفيذ غاياته الواضحة المتمثلة في إبادتهم وإلغائهم، ومعاملتهم ككائنات تحت-بشرية لا حق لها في كرامة ولا وطن.

ما يحدث عمليا في الضفة، هو إخراج نحو 30.000 فلسطيني مدربين ومسلحين في الشرطة، وعدد غير معروف من الموظفين والمنتفعين في دوائر «دولة فلسطين» الوهمية الذين يعيشون من رواتبها، من الاشتباك إلى جانبهم إخوتهم وضد العدو. ولا يُكتفى بهذا «الحياد» أمام ذبح الفلسطينيين لمجرد أنهم يقاومون فحسب، بل يتم الإعلان على رؤوس الأشهاد أن «التنسيق الأمني مع العدو مقدس»، بما فيه من اعتقال المقاومين وتسهيل عيش المستوطنين و»الاحتلال خمس نجوم».

إذا كان ثمة افتقاد مغمس بالحسرة لوحدة الصف الفلسطيني كحتمية لإحداث فارق إيجابي في القضية الوطنية الفلسطينية، فإن المؤسسة الرسمية التي تمثل الفلسطينيين، والمسؤولة التي ترفض المساءلة عن نتائج هذا التمثيل، هي التي تصنع الانقسام وتعمقه، كما أعرب عن ذلك أهالي شهداء جنين. إنها لا تقبل حتى باستيعاب اتجاه المقاومة المؤثرة كخيار يعتنقه فلسطينيون بين البدائل النضالية. وهي لا تتبنى بشجاعة مطلب حق العودة الأساسي لملايين الفلسطينيين في الشتات. وهذا أغرب تمثيل ممكن لمشروع يفترض أن يكون وطنيا تحرريا، لا يحتمل غير العداء المطلق، المخفيّ والمعلن للعدو الواضح المتناقض وجوديا مع الوجود الفلسطيني.

لقد بينت تجربة «أوسلو» يطيلون احتضارها كمعيق واضح للمسيرة التحررية الفلسطينية أن ثمة حاجة إلى عمل على مستوى الوجوه، والتعريفات، والأهداف والوسائل. ومن المؤسف أن تكون القوى الفلسطينية التقليدية الخبيرة التي انكفأت وشاخت وترى الغنيمة في الإياب، هي التي تستولي على صياغة الخطاب الرسمي الفلسطيني وتمتلك الأدوات لتطبيق فلسفة مناقضة علنًا للإرادة الشعبية الفلسطينية. ولأن هذه القوى تمارس هذا الموقف من موقع «السلطة» المستبدة بالقرار واحتكار الاعتراف الدولي، فإن الفلسطينيين مضطرون إلى خوض صراع محلي –أصعب من الصراع مع العدو نفسه- لإزاحة الفلسطينيين الذين يغلقون الطرق أمام البدائل النضالية المجدية.

لقد سئم الفلسطينيون الذين يدافعون عن وجودهم الوطني بدمهم هذه الوجوه، وحتى تلك المرشحة لـ»الخلافة» من نفس حرس المصالح الشخصية. وعلى الأرض في الداخل المحتل، بدأ الشباب الفلسطينيون في فرض البديل المناقض للسلطة والعدو الذي يضمن وجودها، بتكوينات غير فصائلية تتحرك وفق معطيات الميدان، وتهدد حتمًا «مكتسبات» نخبة «القيادات» الرسمية المغرمة بفكرة السلطة والامتيازات. وينبغي البناء على تجربة المقاومين الميدانيين لتوفير بديل سياسي يتبنى خطاب تجميع الفلسطينيين في العالم، وفق أطر تنسيقية ومؤسسية بديلة تعبر عن مواقفهم المشرّفة المتمسكة بالحق الوطني. هكذا فعل العدو –ويفعل- مع ما يسمى «الشتات اليهودي» الذي يُستثمر كرافعة دعائية ومادية للمستعمرين اليهود في فلسطين، بما يعني أن مثل هذا الجهد غير مستحيل، ولو اختلفت الشروط.

يعيد المقاومون إعادة تعريف فلسطين، أو استعادته، كبلد مستعمر ليس فيه شبر واحد حر ولا شخص واحد حر، لا في مناطق «أ» ولا «ب» ولا «ج» ولا غزة. وهذه بداية ضرورية لفحص المواقف. وخلافها يعني تجزئة القضية الوطنية والفلسطينيين. وينبغي على الطريق عزل الذين يُفرّقون على أساس أن المقاومة تضر بالشعب الفلسطيني ويعترفون بوجود العدو حيث كل مكان يتواجد فيه يعني إلغاء وجود أصحابه الفلسطينيين. وينبغي تعرية فكرة أن القبول بالوضع الراهن ووعوده هو «تكتيك مرحلي» لخداع العدو واستعطاف المجتمع الدولي –أي الولايات المتحدة.

ينبغي استعادة «منظمة التحرير الفلسطينية» بهذا المسمى أو غيره، بحيث تكون جسما جامعا من ممثلين نزيهين لكل الفلسطينيين في الوطن والخارج، والتي تتبنى كل الثوابت الوطنية وكل الوسائل اللازمة لتحقيق الغايات الوطنية. العلم هو علم فلسطين. والفصائل فصائل في جيش سياسي وعسكري واحد. والعدو هو العدو باسمه وصفته كعدو لا يمكن التعامل معه إلا من موقع النقيض الوجودي. يجب إحالة «القيادات» المعلنة ذاتيا إلى التقاعد الجبري، بعد أن خلقت الاختلاف المخزي على تعريف فلسطين، والعدو، وشرعية المقاومة. ولن يكون هناك انقسام عند إبراز هذه الثوابت والعزل الحتمي للقلة التي قد تختلف عليها. إن القضية الفلسطينية لا تحتمل «مواقف» لأنها تحدد بطبيعتها الموقف الطبيعي. وينبغي أن يكون الباقي تفاصيل فقط.