تذكّروا أنكم بشر ..

حسين الرّواشدة 
في شارع “ناسبونالي” الذي يمتد بين ساحة الشعب وساحة فينيسيا وسط روما سألني احد الاصدقاء: هل حقاً ،نحن المسلمين ، من علّم العالم واهداهم هذه “الحضارة” ؟ 

كان السؤال –بالطبع- صادما، لكنه لم يفاجئني لان حوار “المقارنات” في داخلي كان قد بدأ منذ أن وطأت قدماي شوارع روما التي ما تزال تحافظ على “ارثها” الحجري منذ الالاف السنين، ليس الشوارع فقط وانما البناء العمراني واللوحات والتماثيل والصور والكنائس…وكل مقتنيات هذا “المتحف” التاريخي الذي يضمّ ما اثثه اهل روما داخل “بيوت” امبراطوريتهم وما زالوا يصرون على ان يحافظوا عليه حتى الان.

تذكرت ان هذه المدينة – التي هي روما – واجهت ذات السؤال على مدى اربعة قرون شهدت فيه صراعات طويلة على الهوية  وعلى “الامبراطورية” قبل ان تداهمها حركة التنوير العلمي والفلسفي والديني ، كانت في اوج قوتها آنذاك ،تتصور ان العالم، لا مجرد البحر، لها ، لكنها استفاقت بعد ذلك وخرجت من انغلاقها، ومدّت يدها لتصافح العالم باعتبار انها جزء من هذه الحضارة الانسانية وليست “المالك”  الوحيدلها.

‎اذن من يريد ان يتحاور مع الآخر، يجب ان يسقط من ذاكرته منطق “الاستاذيّة” على العالم، فلا يوجد امة تمتلك –لوحدها- مهمة “تعليم” الآخرين وإلقاء الدروس عليهم، وكأنهم تلاميذ في مدرستها، هذه مشكلتنا –بالطبع- حين نتصور بأن الآخرين بمختلف اعراقهم ودياناتهم في ضلال كبير، وعلينا ان نذهب على الفور لانقاذهم،او ان احوالهم تثير الشفقة ومن واجبنا ان نحميهم من “البؤس” الذين يعيشون فيه؟

روما التي عرفت الظلم والطغيان كما عرفت الترف والمتعة، التي اذاقت غيرها من الشعوب مرارة الحروب كما ذاقت مرارتها ايضاً، التي هزتها صراعات الدين مع الحياة قبل ان يتصالحا بدخول دولة “الدين” الى ساحة “الفاتيكان”، تقول لنا باستمرار : تذكروا انكم بشر..، فكل هؤلاء الذين ينتصبون امامكم ، من اباطرة وتماثيل ، وكل ما ترونه من قصور ومعابد وكنائس ومسارح، ليست الا آثاراً “لبشر” كانوا هنا ثم مرّوا…تنعموا بكل هذه الخيرات ثم زالت وزالوا… لم يبق سوى روما التي نفخ فيها اهل الفن والثقافة “روح” الحياة، فلم تعد الا صورة او ذاكرة مليئة بانجازات “البشر”…واهلها اليوم –كما نرى- يصرون  ،رغم كل شيء ، على ان تبقى، حتى وان كان صامته لا حياة فيها ولا حركة سوى حركتهم هم ،اذ تحاول ان تبعث فيها  الحياة.

‎روما تذكرنا – ايضاً – بأن بقاءها وصمودها على مدى آلاف السنوات رغم ما تعرضت له من حروب وصراعات، وما شهدته من انحدارات وسقوط وانقسامات، لم يكن بفضل “القوّة” العسكرية فقط، وانما بفضل “الثقافة” هذه التي ابدعت في رسم ملامحها والحفاظ على ذاكرتها واخراجها من عصور الظلام الى النور..فلم يكن بوسعنا ان نرى صورة روما اليوم في مراحل قوتها وضعفها لولا “اصابع” الفنانين الكبار الذين رسموا اللوحات ونحتوا التماثيل وزخرفوا الكنائس والمعابد..والآخرون من المثقفيين الذين “ابدعوا” في تقديم روما في مسرحيات ورويات واشعار وقصص ما تزال حيّة حتى الآن. 
‎هذا درس يجب ان تلتقطه” اًمُنا “ عمان وشقيقاتها  الاثنتي عشر.

ثلاث مصالحات تقف وراء “صمود” روما: مصالحة الدين مع الفن والثقافة والابداع، ومصالحة الدين مع السياسة التي انتهت باقامة “دولة الفاتيكان” المستقلة وتحديد مجالات الدين ووظائفه،ومصالحه الانسان مع الحياة حيث العدالة والحرية والمساواة، وحيث الدولة في خدمة الانسان، وحيث قيمة هذا الانسان في ذاته لا في نسبه او دينه او عرفة او ملته.

انتهت روما من عصر “القتال” والحروب، وودعت الى غير رجعه عهد الاستبداد والطغيان، وفتحت ابواب “متحفها” التاريخي الكبير للبشر لكي يروا بأعينهم ما حدث على مدى نحو (2750) عاماً مما فعله البشر أنفسهم، سواء اخظأوا فيه او اصابوا، وهي دروس يحتاجها جيرانها الذين يعيشون على الضفة الاخرى للمتوسط وما وراءها، لكي يكتشفوا اين هم ، وكيف يمكن ان يجتازوا محنتهم التي لم يخرجوا منها بعد.
لا يمكن ان تغادر روما دون ان تلّح عليك اسئلة “المقارنات”، من ابسطها التي تتعلق بنظافة الشوارع وحفاظها على شكلها الحجري، الى “الهدوء” الذي يخيم على المدينة، الى الصحة والتعليم اللذين توفرهما الدولة للجميع، الى الحركة الفنيّة والثقافيّة الى تنعش مرتادي المسارح ودور السينما والعبادة، الى “الصراعات” السياسية الناعمة التي ينشغل بها اصحابها ولا تشغل المجتمع، الى اعداد الزوار والسياح الذين تتملىء بهم الفنادق، الى الباصات السريعة ومحطات التزام التي تنتشر في ارجاء المدينة كلها…

مقارنات كثيرة تطاردك وتفشل احياناً من الهروب منها، لكنها تذكرك دائماً بأن عليك ان تتعلم من تجارب الآخرين…فأنت لست استاذاً ولا “احمق” ايضاً، بل أنت جزء من هذه الحضارة الانسانيّة، كنت شريكاً فيها ثم تخلفت عنها ولا بدّ ان تتعافى لكي تنتزع منها ما تبحث عنه من اعتراف واحترام…ولكي تًردّ عليك التحية بمثلها او بأحسن منها…