فلسطين والنكبة الثانية
"إن أكبر خطأ ارتكبه بن غوريون هو أنه لم يكمل المهمة كما يجب"، هذه الجملة قالها بتسلئيل سموتريتش في معرض وصفه للمخاطر التي تواجه إسرائيل والتي أعتبر أن أهمها هم الفلسطينيون الذين يقفون كالشوكة في حلق هذه الدولة، وتابع حديثه "كان على بن غوريون القضاء على جميع الفلسطينيين قبل توقيع هدنة العام 1948 ولو فعل ذلك لما عشنا كل هذه المشاكل"، وأردف قائلاً "أنا جئت الآن كي أُكمل المهمة، وهو لا يتوقف في جملته الأخيرة عند فلسطينيي 1948"، بل تشمل، كما يدعي، أرض إسرائيل التوراتية التي وعد بها الرب وتشمل الضفة والقطاع (يهودا والسامرة).
سموتيتش هذا ليس ناطقاً باسم نفسه، بل يمثل تياراً عريضاً بدأ يتسيد الموقف هو عبارة عن تحالف اليمين الديني المنحدر من القومية الصهيونية بتيار جابوتنسكي صاحب مقولة الجدار الحديدي والتي تتلخص "أفضل حل للمقاومة الفلسطينية ليس بمنعها، بل بقتل فكرة المقاومة من الأصل، وهذا ما أطلق عليه الجدار الحديدي"، وبسبب الفشل في بناء هذا الجدار المعنوي في قلوب الفلسطينيين، اضطر شارون لبناء جدار آخر من الإسمنت، وبسبب التحالف بين التيارين السابقين واليمين الصهيوني المتطرف، نشأ كوكتيل متطرف شعاره الأوحد قتل أو تهجير الفلسطينيين، والتيار الصهيوني الديني هو نتيجة المصالحة التي توصل إليها الحاخام أبراهام كوك والذي شرعن الحركة الصهيونية واعتبر أنها واحدة من أدوات الرب سخرها من دون أن تشعر لخدمة إسرائيل.
وسيكون عمل كوك هذا واحد من الأسباب التي أدت الى الإقبال الكبير على اعتناق اليهودية بعد حرب العام 1967؛ حيث اعتُبر هذا النصر ليس سوى تدخل الإله في مسيرة صعود إسرائيل، ومنذ ذلك الوقت بدأ صعود اليمين وتراجع اليسار توج ذلك بفوز مناحيم بيجن في العام 1977، لكننا الآن بدأنا نشهد صعود ما يعرف باليمين الصهيوني الجديد على حساب اليمين التقليدي المبني على أفكار جابوتنسكي، هذا اليمين الذي يستند الى مقولات مائير كاهانا بأن الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني المقتول أو المهجر، أما الأرض فهي، حسب دان دانون ممثل إسرائيل في الأمم المتحدة، فملكيتها تأتي من الرب حسب النص التوراتي "هذه الأرض ملك لك ولبنيك من بعدك للأبد"، كان ذلك في معقل القانون الدولي.
ولأن عقيدة هؤلاء تستند إلى التوراة ولأن اسم الإله لا يجب أن يذكر إلا في الهيكل ولأن الشرائع المعطلة لا يمكن أن تقام إلا بعد بناء الهيكل، وهذا الهيكل يقع بالنسبة لهم حيث المسجد الأقصى، لذلك فإن هدم المسجد وبناء الهيكل على أنقاضه أمر لا مفر منه بالنسبة لهم، لذلك تجتمع عقيدتهم على تطهير الأرض بالمستوطنات وتهجير الفلسطينيين، وبناء الهيكل، وكي يتم كل ذلك، يجب استخدام العنف والدبلوماسية، ولأن الولايات المتحدة أدركت ذلك وأن هذا اليمين لا محالة صاعد وأن مخططاته في طور التحقق، لذلك كان لابد من إضفاء المشروعية السياسية على أفعاله، لذلك بدأت بما يعرف بالدبلوماسية الروحية والتي تهدف الى إقامة مصالحة تاريخية بين ابراهام التوراة وإبراهيم القرآن وبين إسحاق التوراة وإسماعيل القرآن وبين توراة بني إسرائيل وتوراة القرآن بغاية رئيسية هي تثبيت ملكية فلسطين حسب النص التوراتي المُتصالح عليه.
هذه هي النكبة الثانية، فمنذ الآن لن تشمل المفاوضات الأراضي الفلسطينية أو المسجد الأقصى، فهذه ثُبتت ملكيتها حسب النص التوراتي، بل ستكون المفاوضات على إرث إبراهيم من الثروات التي حُرم منها أبناء إسحاق في الشتات، بينما أبناء إسماعيل يغرقون فيها، لهذا لم نعد نسمع مفردات الصراع التقليدية على الطاولات الدولية والإقليمية، وتلك لم تُبق للفلسطيني سوى أن يقلب الطاولة على رؤوس الجميع ويمزق كل الأوراق ويثبت للجميع أنه الشوكة التي سيغص بها هذا الاحتلال، لأن الحديث عن السلام والقانون الدولي أصبح عبثاً مع نتنياهو وسيموترتش وبن غفير، لذلك بدأت لغة الرصاص تستعيد مكانتها الأولى، لكن قدر الفلسطينيين أنهم وحدهم في هذه النكبة الجديدة، والتي ربما تتحول الى نكبة إسرائيل التي أضاعت الفرصة التاريخية بعقد سلام مع الفلسطينيين وذهبت تبحث عن صفقات واهية لن تستفيد منها شيئاً.