ثورة لتحرير العقل
مالك العثامنة
نتحدث في الأردن عن إصلاحات سياسية وإدارية وتحديث اقتصادي!! كيف يمكن أن نقوم بكل ذلك والوعي المعرفي-التعليمي لدينا قاصر؟ تلك حقيقة علينا مواجهتها.
ما سيحدث قريبا، وهو يتفاعل الآن، أننا نركض في كل الاتجاهات و"نتخابط" لإنتاج حياة حزبية عبر تجمعات جهوية شبه سياسية ومشوهة، تعيد إنتاج ذات المنفستو بذات الأدبيات القديمة، لننتج حالة حزبية تنجح في الانتخابات وتشكل الحكومات المقبلة بناء على أغلبية ينتجها صندوق انتخابات يتغذى على أصوات الناخبين، وحسب أفضل الحسابات المنطقية بناء على معطيات الواقع، فإن "الكوتا الحزبية" التي يفترض أن تأخذ 40 مقعدا في المجلس بالكاد ستصل إلى أربعة مقاعد.
هذا المتوقع.. ببساطة.
لكنها تجربة يجب أن نخوضها كاستحقاق دستوري وتشريعي لنتعرض للصدمة وندرك أننا قاصرون من دون معرفة.
في المقابل، أنا مطمئن قليلا..
لأنه، وفي موازاة التجربة الصادمة في بداياتها، هناك عمل حقيقي يجري الآن على تطوير النظام التعليمي، وقد كنت محظوظا أني أعرف شخصيا أغلب الفريق الذي يقوم بالتطوير على أكثر من جبهة وعلى تعددية خلفياتهم وآرائهم.
في أروقة العمل الحقيقي البعيد عن الثرثرة والاستعراضات في الإنجاز، هناك فرق متعددة تعمل في اتجاه واحد لهدف إصلاح البنية التعليمية هرميا من القاعدة إلى القمة.
مؤخرا، اطلعت على أوراق الخطة الدراسية للمسار الأكاديمي في المدارس للصفوف الثانوية، من العاشر حتى الصف الثاني عشر، وهي خطة ثورية في نظام ما نسميه "التوجيهي" ستحوله من حالة صوانية صامتة تنتج عبثا سنويا لا قيمة معرفية فيه إلى حالة ديناميكية متخمة بالعلم والمعرفة والتخصص الذي يتطلب في نهاياته ومخرجاته تخطيطا موصولا مع مؤسسات التعليم العالي وهيئات تخطيط سوق العمل الأردني.
ما علمته يقينا أن رأس الدولة، الملك نفسه، يشرف على اجتماعات تلك الفرق وبالتفاصيل وباهتمام لافت وحضور شخصي.
الخطة هي جزء من استراتيجية أكثر اتساعا، وتشمل في رؤيتها الواسعة الموارد البشرية من معلمين وإداريين ومشرفين سيكونون مؤهلين بالكامل، ومناهج حديثة عملية معرفية لا تخضع للدجل ولزوميات ما لا يلزم، ورؤية هندسية جديدة للمباني ممتدة على سنوات وضمن تشريعات مقبلة جديدة تشرف عليها كلها وزارة التربية والتعليم مباشرة.
ما قرأته في تلك الخطة "المشغولة بهندسة معرفية" تضع أملا كبيرا للمدى المنظور في إعادة تأهيل المدارس الحكومية كمدارس معرفة وعلم بامتياز، وفي الخطة رؤية تخطيطية لسوق العمل في الأردن وخارجه توظف مخزون الطلبة وتوجهه بتخصصية مسبقة في الصفوف الأخيرة من المراحل الدراسية، شيء يشبه التجارب العالمية لكن بهوية أردنية خاصة بالواقع الأردني وخصوصيته المجتمعية.
المدرسة "المؤهلة طبعا كشرط مسبق" سيكون لها دور في تحديد مسارات الطالب العلمية وتخصصه الدراسي، والحصص المعرفية مقسمة على المواضيع بطريقة الحقول في المرحلة الأخيرة، تشمل الحقل الصحي والهندسي والعلوم والتكنولوجيا واللغات والعلوم الاجتماعية وحقل الأعمال وحقل القانون والعلوم الشرعية.
هذه حقول تأسيسية للمعرفة في المرحلة الثانوية، تمهد لطالب قادر على أن يدخل الدراسات العليا على بنية تحتية مبنية على أسس صحية سليمة.
الكثير يمكن الحديث عنه في تلك الخطة، وهي جزء من استراتيجية يتم العمل عليها يوما بيوم وجهدا على خبرة، تشمل أيضا خطة موازية للتعليم المهني ورؤية تعليمية واضحة لا إنشائيات فيها بباقي الفروع التعليمية التي ستؤهل الإنسان الأردني، والمقال ليس مكانه شرح كل ذلك، لكن واجبنا أن نتحدث عن أمل ما في الأفق، أمل بمنظومة معرفية ستبدأ بإنتاج جيل مؤهل بتلك المعرفة المتماهية مع العالم، وحينها يمكن أن نرى أول غيث الإصلاح السياسي والإداري في الدولة على أرض الواقع ومن دون عمليات "ولادة أنابيب" أو جراحة قيصرية.