هل يغير الفلسطينيون قواعد الاشتباك..؟!
علاء الدين أبو زينة
في ما يُسمى "المجتمع الدولي"، يرتاحون إلى فكرة أن ما يجري في فلسطين المحتلة هو صراع بين دولتين متكافئتين، تتفاوضان من موقع النظير على إنهاء احتلال ليس إنهاؤه مُلحًّا بالنسبة لهذا "المجتمع". وقد دفع هذا التصور، الذي ساعدته اتفاقات أوسلو وإنتاج "السلطة الفلسطينية"، إلى الظل بحقيقة أن الضفة وغزة منطقتان مُحتلتان، ينتمي أي رد فعل عنيف يصدر منهما إلى المقاومة المشروعة.
بل إن الذي يُدان في الأحداث هو الطرف الفلسطيني؛ على الرغم من الغياب المطلق للتكافؤ مع قوة الاستعمار. إننا لا يمكن أن نسمع من "المجتمع" مسألة "الحق في الدفاع عن النفس" لوصف أي فعلٍ فلسطيني، بينما يقفز هذا التعبير لوصف عمليات القصف والقتل وإرهاب الدولة التي ينفذها الكيان الاستعماري في حق الفلسطينيين بلا توقف، زيادة عن الاحتلال كفعل غير مشروع.
لم يجلب اقتراحُ التيار الفلسطيني المهيمن (وآخرون) الجنوح للسلم -من دون أن يجنح له العدو- أيَّ مكسب للفلسطينيين باتجاه الأمن والحرية. ولم ينجح البكاء على الشهداء في استعطاف "المجتمع الدولي" ليتدخل. بالإضافة إلى خنجر الاستعمار المؤلم بما يكفي، ينزف الفلسطينيون أعمارهم، مجازيًا وحرفيًا، سواء قاوموا أو سكنوا. وبذلك، ما مِن منطق في التوصية بالكف عن المقاومة والاكتفاء بإحصاء الخسائر. في حالة الشعوب المستعمَرة، ليس السكون خيارًا لأنه يعني التعايش مع الاستعمار بشروطه، وهو حالة غير طبيعة قوامها العدوان والإخضاع والإلغاء. لا يجوز مع الاستعمار قول شيء مثل: لا تستفزوهم لتسلَموا. لا سلامة في العيش مع اللاطبيعية والذل والأسر. إنه انتحار وطنيُّ فوق الفناء الفيزيائي. هذا مع الاستعمار التقليدي، فماذا عن الاستعمار الاستيطاني؟
المقاومة الشعبية السلمية في الحالة الفلسطينية كبديل وحيد ليست خيارًا. والتوصية بها تتعامي فقط عن طبيعة مشروع العدو. إن وجوده كاستعمار استيطاني يقتضي، نظرية وممارسة، إلغاء كل أشكال وجود الشعب الأصلي والحلول محله. وقد نشأ المشروع الصهيوني فعليًا في فلسطين على التطهير العرقي والمجازر والتهجير القسري. وما يزال عمله الأساسي استكمال ذلك كشرط لبقائه. وفي الحد الأدنى، كما يقول جندي سابق في جيش الاحتلال خدم في الضفة، كانت مهمة الجنود جعل وجود المستعمِر محسوساً كل دقيقة بالنسبة للفلسطينيين. يجب أن يشعروا بأنه جالس على رقابهم في أي لحظة في الليل والنهار بحيث يعيشون مع الخوف والترقب. هذه هي لاطبيعية العيش تحت الاحتلال الذي لا يليق قبوله بإنسان.
تتجاهل نصيحة الفلسطينيين بالكف عن المقاومة بسبب عدم تكافؤ القوى حقيقة أن عدم التكافؤ هذا هو سبب تمكن الاستعمار من الاستعمار في الأساس. وهو لذلك مُعطى. لكن هذا لم يكن، تاريخيًا، سببًا لتعطيل دافع حفظ البقاء الأصلي عند أصحاب الأرض المستهدفين بمقاومة الإلغاء. وكانت مقاومة الفلسطينيين ورفض الخروج من الصروع هي التي أفشلت المشروع الاستعماري الاستيطاني في تكرار نموذج أميركا وأستراليا الذي أنهى وجود الشعوب الأصلية المحسوس، فيزيائيًا وثقافيًا.
الفلسطينيون منذورون للاشتباك المتواصل مع العدو بما يتعدى الاختيار. وعليهم عبء الاهتمام بطبيعة جانبهم من الاشتباك: أن يظلوا يخسرون من دون أن يدفع العدو ثمنًا، بطريقة "احتلال خمس نجوم" الذي أتاحته آليات "أوسلو"، أو إيلام العدو أيضًا بحيث يعاود فحص خياراته باعتبار الأرباح والخسائر. لماذا قد "يتنازل" مُحتل عن أرضٍ لا يكلفه الاحتفاظ بها أي شيء، وتُكلف سلطاتها المحلية بضمان عدم قيام سكانها بشيء؟
كان السؤال: كيف يقتحم جنود العدو المجتمعات الفلسطينية في الضفة المحتلة، حيث يمتلك المقاومون (في غفلة عن مخبري "السلطة") بنادق آلية، من دون أن يخسر العدو جنديًا واحدًا؟ هل جنوده وعرباته من عنصر لا يُمس؟ كيفَ يهاجم المستوطنون المتوحشون منازل الفلسطينيين وبيوتهم وبساتينهم فيدمرون ويحرقون وينسحبون بلا كلفة؟ لو كانوا يخافون الرد لفكروا قبل الهجوم. وحسب أي قانون، يعتبر وجود الجنود والمستوطنين في الأراضي الفلسطينية المحتلة غير مشروع، ويجعلهم أهدافًا مشروعة لمقاومة مشروعة.
يبدو أن الفلسطينيين عازمون على تغيير هذه القواعد غير المنصفة. في جنين مؤخرًأ، خسر العدو آليات وجنودًا. وبالتأكيد خسر الفلسطينيون شهداء وجرحى. وكانوا سيخسرون في كل الأحوال، لكن الفارق هو أن أرواح الشهداء لم تذهب سُدى هذه المرة، ولم تبكِ الأمهات الفلسطينيات وحدهن. لم يُغادر مُحتل في التاريخ من دون أن يتألم كثيرًا أولًا. وإذا كان تحرير الضفة وغزة خيارًا مرحليًا معقولًا يوافق عليه "المجتمع الدولي"، فإنه لن يتحقق من غير أن يخاف المستوطنون، ويموت الجنود الغزاة وتُدمر الآليات ويصبح بقاء الاحتلال مُكلِفا وخاسرًا. عندئذ فقط، قد تعني "المفاوضات" شيئًا يمكن مقاربته بعين غير مكسورة، وانتزاع شيء من خصم مُرهق. وربما تكون المقاومة الجديدة في غزة والضفة، برغم اضطرارها إلى الالتفاف على "تنسيق" الأشقاء أولًا، هي الخطوة الضرورية على أول الطريق.