الآفة في الصحافة

مالك العثامنة

الصحافة مهنة، وليست وظيفة. وهذا يضع الصحفي في خانة المهني المحترف لا خانة الموظف المكلف، مما يجعل المحتوى نفسه "منتجا" لا تعبئة عبثية لفراغ الوقت والمساحة.

في الأردن -ضمن سياق عربي أيضا موجود- المواقع الإخبارية بمجملها إلا من رحم ربي هي فضاءات ثرثرة تسعى لاستقطاب مفترسي الغيبة والنميمة، وهذا في العمق يعكس الوعي بهذه المهنة ورؤية الناس لها.

أتابع، مثل غيري، صفحة فيسبوك الذي تقرر خوارزميته نوعية الصفحات التي أراها من دون عناء البحث، فتكون تلك المواقع أول ما أقرأه، فلا أجد صحافة حقيقية تعالج بمهنية محترمة قضايا مجتمعية، بل حزمة أخبار أصلها نميمة، لكنها تجد قبولا عند الناس وكمية تعليقات وافرة تغذي عند المتلقين غريزة الافتراس.

هذا الفضاء "الأزرق" مليء بأسماك القرش التي تبحث عن رائحة دم من بعيد، أي فريسة ملقاة في هذا الفضاء كافية لتجميع أسماك القرش الموهوبة بالنهش. تلك ليست صحافة وهؤلاء ليسوا قراء.

طبعا، هناك من التقط الحالة، ووظفها سياسيا، فصارت الفرائس الدموية تلقى حسب التوقيت، ليضيع الخبر وتتلاشى مهنة الصحافة.

أخطر ما واجهته الصحافة في عصر التكنولوجيا الرقمية هو التفاعلية مع المتلقي، وهذا ليس سيئا في حالة وجود وعي مبني على تعليم وثقافة صحية سليمة في مجتمعات مواطنة يضمها مفهوم دولة مؤسسات، لكنه كارثة في حال غياب ذلك كله لننتهي إلى ما نراه يوميا وفي أي وقت من مواقع ترى في افتتاح مطعم "خبرا عاجلا" أو مناسبة اجتماعية فرصة لصياغة "خبيثة" تتجنب الوقوع في كمائن قانون العقوبات لكنها تفتح التعليقات المؤذية و..المفترسة.

الظاهرة الفرعية الأكثر لزوجة في الموضوع، هي مفهوم "المواطن الصحفي"، وهو مفهوم مائع لا معنى له يجعل الصحافة مهنة من لا مهنة له، فننتهي بمدعين للصحافة قادرين على التقاف أي معلومة تافهة أو غنية وقذفها بصياغات رديئة مغلفة بذلك الدم المشتهى للفرائس الكامنة في مساحات الفضاء الالكتروني.

طبعا، ما يزال هناك صحافة حقيقية ومهنية، فيما تبقى من صحافة مطبوعة -وقلة من مواقع- وصفحاتها المشغولة باحتراف الزملاء لا تجد طريقها للانتشار في فضاء الكتروني مفترس، مع أن القضايا المطروحة فيها هي من صميم حياة الناس وتفاصيل معيشتهم.

كل ما تحدثنا به أعلاه يخلق الحالة السياسية البائسة التي نعيشها، لأن المنظومات السياسية في الأردن صارت تهتم بالمظاهر والاستعراضات.

السياسيون صارت أولوياتهم أن يكونوا "خبرا عاجلا" في أي مناسبة لا معنى لها أو افتتاح مؤسسة تجارية، أو ضمن سطور في مقال يكتبه متنفع يعرف من أين تؤكل الذبيحة كلها لا الكتف وحده، والمسؤولون في مواقعهم الرسمية صارت أولوياتهم اليومية تجنب الحضور في أي انتقاد يكتبه مرتزق إشاعات، فيعيشون حالة الرعب وتنتهي مؤسساتهم بهدر طاقة عمل يومي لدرء تلك الإشاعة أو تفنيدها.

والصحفي -الحقيقي المهني- مضغوط بلقمة عيشه والسعي وراء رزقه من جهة، والبحث عن مساحة يعمل فيها بحرية أساسها الالتزام المهني لا المناكفة، أمام متصيدي فرص وجدوا في الغيبة والنميمة مساحات وافرة في عالم النشر الإلكتروني لغايات ضبط جودة حضورهم النخبوي، وتقديم أوراق اعتمادهم لمناصب معلبة تزهو بهم ويزهون بها.

ما الحل؟

التعليم ثم التعليم ثم التعليم، لإعادة تأهيل الوعي المجتمعي كله، ثم تولد "طبيعيا" التشريعات التي ينتجها وعي صحي وسليم ومتعافٍ.