كيف يفهم العرب الاستقلال؟!

علاء الدين أبو زينة

تحتفل الدول العربية بلا استثناء بالاستقلال في تواريخ وطنية خاصة. لكن نظرة أعمق إلى هذه الاحتفالات ستكشف عن خطأ في التعريف. يتعامل العرب، كأمة وكأقطار، مع الاستقلال على أنه شأن ناجز، تحقق بمجرد خروج جيوش المستعمِرين من الأرض. ويجري التعامل إعلاميًا مع أي منجزات تكون قد تحققت "منذ الاستقلال" على أنها "نتائج" له، بينما هي الحقيقة مقدمات لإنجازه باعتباره "عملية" وليس لحظة تاريخية.

يميزون في العالَم بين التخلص من الاستعمار، أو تفكيك الاستعمار، (أو أي مقابل عربي لمفهوم decolonization الإنجليزي)، وبين "الاستقلال" (المقابل العربي لمفهوم independence). والمفهومان متداخلان، لكنهما يطرحان نفسيهما كلاهما على أنهما "عمليات". ويفهم "إنهاء الاستعمار" على أنه حركة سياسية وفكرية تحاول محو الآثار التاريخية والمستمرة التي خلفها ذلك الاستعمار، و "مسعى" إلى تحدي وتفكيك هياكله وأنظمته وأيديولوجياته، "في اتجاه" إنجاز التحرر الاجتماعي والثقافي والاقتصادي للشعب المستعمَر. وأحد تعريفات الاستقلال هو أنه "عملية" تحرير المستعمَرة السابقة من حالة التبعية، و"نحو" ممارسة السيادة وتقرير المصير. ويعني ذلك أنه لتقدير حالة الأمة/ القطر من حيث التخلص من الاستعمار والاستقلال، ينبغي تفقُّد حالتها في اللحظة المعنية في سياق "العملية"– أي النتيجة اللحظية لتفاعلاتها الما- بعد- استعمارية.

أين العرب في هذه "العملية"؟ لمحاولة الإجابة تحددها مراجعة مجموعة المتغيرات: التحرر الاجتماعي-الاقتصادي؛ وتفكيك هياكل الاستعمار، والتخلص من التبعية وممارسة السيادة وتقرير المصير... وهكذا

في سياق تفكيك الاستعمار، ينبغي تفقد هياكل السلطة الدائمة وأنظمة الهيمنة التي نشأت خلال الحقبة الاستعمارية، وما إذا كانت ما تزال تعمل في الوقت الحاضر. فالاستعمار ليس نشاطًا يقتصر على السيطرة السياسية فحسب، وإنما نشاط ينتج في سياقاته أيضًا ترتيبات اجتماعية- اقتصادية وثقافية عميقة الجذور غايتها إدامة اللامساواة والتهميش في مستعمراته. وبذلك، يقتضي تفكيك الاستعمار بشكل أساسي تحقيق العدالة الاجتماعية، وتحرير الفرد، وتحويل الأنظمة القمعية نحو جوهر ديمقراطي. كما يقتضي تفكيك الهياكل والمؤسسات الاستعمارية، وتحدي تسلسلاته الهرمية العرقية والثقافية والاقتصادية، وخلق مجتمعات أكثر إنصافًا وعدالة.

لا يمكن الحديث عن إنهاء الاستعمار، أو الاستقلال العربي من دون معارضة التدخلات الإمبريالية والممارسات الاستعمارية الجديدة التي تستمر في ممارسة السيطرة والتأثير على المنطقة. وينبغي أن يشمل ذلك مقاومة التدخلات العسكرية، والاستغلال الاقتصادي، والتدخل السياسي الذي تتابعه القوى الخارجية. وهذا الجزء غائب عن معظم الممارسة العربية الرسمية التي تسهّل للخارجيين كل هذه الأمور، بما فيها استضافة قواعدهم العسكرية، وتمكينهم من التدخل السياسي وفرض الإرادة والتحكم في الاقتصادات –وحتى صياغة العقل الاجتماعي.

وفي الحقيقة، يتقاطع الاستعمار مع أنظمة الاضطهاد المحلية الأخرى، مثل النظام الأبوي، والطبقية، والنظام السياسي السلطوي، والتمييز في المواطنة، وتهميش وتغريب مجموعات عرقية أو أيديولوجية أو دينية معينة. وما تزال هذه الأنظمة تنشط بوضوح في العالم العربي. بل إن اتجاهات الانفصال على هذه الأسس تُترجم في شكل المذابح وتدمير الأوطان، تنفيذًا لإرادة المهيمِن الاستعماري أو خدمة لدوام هيمنته. كما يجري استهداف ناشطي وحركات العدالة الاجتماعية الساعية إلى تحدي الأنظمة القمعية ومناصرة المساواة وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والاقتصادية، باعتبار كل ذلك جزءا من مسعى الاستقلال.

يتطلب إنهاء الاستعمار تحرير التعليم، بحيث يتم تطهير المناهج والكتب المدرسية من تحيزات المركز الاستعماري، ويجري تعزيز التفكير النقدي، ودمج التاريخ والمعرفة ووجهات النظر المحلية غير المتوافقة بالضرورة مع نظرة الآخر الإمبريالي. وما يزال هذا العمل غير ناجز إلى حد بعيد في المنطقة العربية. وعلى سبيل المثال، يُفرض على الأنظمة التابعة أحيانًا شطب (أو تخفيف لغة) السرد عندما يتعلق الأمر بالتجربة الاستعمارية. وفي حالة أخرى، يجري تطبيع الكيان الصهيوني تعليميًا، كمثال، من خلال تشويه السردية التاريخية العربية وإقحام الاستعمار الاستيطاني الصهيوني ككيان طبيعي. كما أن نهج التعليم ومناهجه في معظم الوطن العربي حرفية، غير نقدية، وسكونية محافظة، فيما يتناقض جذريًا مع فكرة الاستقلال وإنهاء الاستعمار.

وفي السياق نفسه، ثمة تجاه غريب يظهر في العالم العربي، ويتعارض بدوره مع منطق التخلص من الاستعمار، هو التكريس الطوعي للإمبريالية اللغوية. وفي أننا نجونا، كمستعمرات "سابقة" من استبدال اللغة المحلية بلغة المستعمر، ثمة من يتطوعون بهذا الاستبدال، فيستخدمون لغة المستعمِر في غير محلها وحيث لا تلزم، في تنكُّر غريب للعربية باعتبارها أساس الهوية ووسيلة المقاومة الأساسية ضد الاستحواذ الخارجي.

كما يرتبط بهذا أيضًا إنتاج المعرفة. ينبغي تحرير إنتاج المعرفة بتحدي نظريات المعرفة التي تتمحور حول الغرب وسردياته التي سيطرت على الخطاب الأكاديمي والفكري. لكنّ ثمة قصورًا في مسعى العرب إلى إنتاج نظريات معرفة بديلة وأطر معرفية تحمل بصمتنا الحضارية وتطرح نفسها في مقابل إنتاج المركزية الأوروبية للخطاب الأكاديمي والفكري. ومن البديهي أن الذي ينتج المعرفة هو الذي يتحكم في الخطاب، وأن نكون بوصفنا غير منتجين للمعرفة ومستهلكين لها غير مستقلين ومستعمرين.

ثمة بالتأكيد المسائل المهمة غير المنفصلة، مثل استقلال القرار السياسي السيادي، المتشابك مع الاستقلال الاقتصادي والتكوين الاجتماعي، والعلاقات الجدلية الحتمية بين كل هذه المتغيرات. ويغلب أن يفضي التقييم إلى أن الاقتراب من إنجاز استقلال العرب أمة وأقطارًا، كسمة غالبة يمكن تمييزها، ما يزال بعيدًا.