استعادة..!

علاء الدين أبو زينة

ثمة أناس يمارسون هواية –وأحياناً مهنة- يُسمونها «الاستعادة» restoration. قد يبحث الهاوي، حسب ميوله، على سيف قديم جدا وصدئ، أو ماكينة يدوية قديمة من أي نوع وما شابه، ويشتغل عليها حتى يعيدها جديدة تقريبا. ويصل الأمر ببعضهم إلى العثور على سيارة كاملة مهجورة، يشحنها إلى باب منزله و»يستعيدها» ويستخدمها. والمحترفون من هؤلاء، يشتغلون مثلًا باستعادة اللوحات الفنية الثمينة وصيانتها، أو بترميم الآثار التاريخية، أو بترميم المخطوطات، إلخ.

من هؤلاء، مثلا، شخص وجد في بحثه سيارة/ لعبة، مهترئة أكلها الصدأ، وذهبت إطاراتها وملامحها بحيث بدت «استعادتها» مستحيلة. لكنه استخدم الصفة التي تميز بعض الناس، والتي يمكن أن نسميها «سعة الحيلة»، وبطريقة سهلة ممتنعة، استعاد السيارة وجعلها صالحة للبيع في محل ألعاب. في النهاية، ليس هناك شيء يعجز عنه أصحاب الحيلة هؤلاء –ولو أنك ستستغرب إصرارهم على «استعادة» أشياء لها بدائل جديدة، وأن تُعجب أيضا بدأبهم ووسائلهم إلى ذلك.

في التاريخ أيضا، ثمة استعادات. في إنجلترا القرن 17، كانت حقبة «استعادة» Restoration، أصبح فيها تشارلز الثاني ملكا بعد فترة طويلة من عدم وجود ملكية، وانتهت فترة الكومنولث. وتزامن ذلك الحدث السياسي مع التغيرات في الحياة الأدبية والعلمية والثقافية في بريطانيا التي أصبحت أكثر علمانية وعقلانية وتسامُحا، في سُمي عصر العقل، أو التنوير.

وثمة «استعادة» أخرى مهمة في التاريخ، هي حقبة إعادة الإعمار Reconstruction في الولايات المتحدة، التي استمرت من العام 1865 إلى العام 1877. وفيها عمدوا إلى معالجة تداعيات الحرب الأهلية وإلغاء العبودية. وتضمنت الحقبة الجهود المختلفة لحماية حقوق وحريات العبيد السابقين، وإعادة توحيد الأمة، وإعادة بناء الاقتصاد والبنية التحتية في الجنوب.

الاستعادة، بأي مستوى، هي مفهوم معقد متعدد الأوجه، يمكن أن يكون له معان وآثار مختلفة اعتمادا على المنظور والهدف. سوف تكون الاستعادة مجهودا إيجابيا أو سلبيا، اعتمادا على ما إذا كان يُنظر إليها على أنها استعادة لشيء جيد أو رديء. و»الأصولية» مثال. ثمة «أصولية» لا تراعي التحولات التاريخية والحضارية وتصبح «رجعية»، وثمة أصولية تقصد التأصيل لغاية استكمال السياق ومنطقته، مع أقصى مراعاة لتحولاته. بل إن الصهيونية تأسست، في مشروعها الاستعماري-الاستيطاني في فلسطين، على «الاستعادية» كتبرير، باستنفار «التاريخ» التوراتي لصناعة سرد، ذهابا إلى الاستعادة الحرفية -ترميم «الهيكل» على حساب الأقصى.

الاستعادة حاضر طبيعي، لكن علاقتنا نحن به ملتبسة. على المستويات البسيطة، يندر أن «نهوى» استعادة الأشياء المادية. إذا انكسرت ألعاب أطفالنا، قليلون منا هم الذين يرغبون في بذل الوقت والجهد (أو يمتلكون سعة الحيلة) لترميمها. وكذلك أثاثنا وأدوات بيوتنا. وعلى مستوى مختلف، سوف نجلب خبراء أجانب غالبا، لاستعادة آثارنا، أو ترميم مخطوطاتنا، أو الإشراف على مناهجنا، أو مراجعة وتعديل خططنا الاقتصادية –أو سياساتنا الوطنية حين يكون مستشارو بعض الحُكام الرئيسيون من الأجانب.

لعل أبرز نشاطاتنا الاستعادية، كعرب، هو «ترميم» الشعر –خاصة الحماسي. سوف يسرُد واحِدنا تاريخ الأمجاد، والفتوحات، ومنجزات العلماء، موثقة بشعر عنترة، كزاد يكفي للشبع بالاجترار. وعندما اجتهد آخرون بطريقة أكثر منهجية وعملية، ظهر عندنا عنوان كبير: «الإسلام السياسي». وتميزت حركاته المؤثرة جدا جدا بمحاولة الترميم الحرفي جدا لما اعتبروه رموزا لا تستقيم من دونها الأمور –ارتداء سروال وثوب قصير وعمامة، وإطلاق اللحى بلا تشذيب و»إهانة الشوارب». ولم تكن الفكرة التأصيل لاستكمال السياق، وإنما إلغاء السياق والبدء من «ألف باء»، مع تصُّور غير منطقي ولا عملي للألف باء وعرضها بطريقة غير جذابة لا يمكن أن تكون هي.

يبدو أن جُل خبرتنا صراع مع الاستعادات: استعادة الهويات المكسورة، والذوات المهزومة، والكرامات المهدورة والآمال الخائبة، والأوطان المسلوبة. وفي ذلك، لا أثر لـ»سعة الحيلة»، ولا براعة في استخدام الأدوات والمواد بطريقة خلاقة -سهلة ممتنعة. ثمة عوز في الأفكار والرغبة في الترميم من الأساس. والنتيجة، لا نحن نستعيد ما تنبغي استعادته إيجابيًا، ولا صناعة لجديدٍ مؤصّل صالح للاستخدام، ناهيك عن التسويق. ثمة «مشّي حالك» وكأن الأشياء تمشي على عواهنها، في انتظار غودو التنوير، الإصلاح، العقل، الترميم، الذي لا يصل.