أوهام التنوير العربي

بالنظر إلى البؤس الثقافي الضارب بجذوره في فضاءاتنا العامة، فإن كل حديث موضوعي وعقلاني عن فعل التنوير، يظل ضربا من تحصيل حاصل، رغم ما يوحي به المشهد من اكتظاظ مفرط بالخطابات ذات الصلة. ذلك أن ضيق الدائرة التي يوجد فيها المثقف التنويري، يمارس دوره المباشر نفي الخطاب وإقصائه داخل هامش شبه منسي، ومنعدم التأثير في ما تحفل به فضاءات المعيش من حيوات. وبالتالي، فإن الحديث عن غياب الحس التنويري لدى نسبة جد مهمة من الشرائح العربية، مرده انتفاء الشروط الذاتية والموضوعية المساهمة عمليا في ترسيخ جذوره، وتعميم مقوماته لدى العامة كما لدى الخاصة. ولعل أهم الأسباب الفاعلة في تنشيط هذه الشروط. العزلة الخانقة الممارسة على المقومات التنويرية، من قبل مؤسسات رسمية ذات طابع شمولي، تحتكر لنفسها الحق في فبركة الاختيارات وتعميمها.

ومن المفارقات الجديرة بالاهتمام في هذا السياق، عمق الهوة الفاصلة بين السرديات المتقدمة، التي ما فتئت الفعاليات التنويرية تراكمها في مختلف مجالات الفكر، والإبداع، وبين محدودية ما تحدثه من تأثير في محيط اشتغالها. وهو بالمناسبة محيط أعمى وأصم، بما تعنيه الكلمة من تغييب ممنهج لمقتضيات الشأن الديمقراطي شأنا يعتبر عاملا أساسيا في فتح قنوات القول، التفكر والحوار. وفي اختصار شديد، إنه التغييب، الذي يجبر اللحظة على البقاء سجينة تدبيرها للمتطلبات البيولوجية، إجبارها العقل على المراوحة الدائمة في دواماتها.

ومن أبلغ تداعيات هذا التغييب، هيمنة فراغ معرفي فادح، يترك الحبل ملقى على الغارب، بما يلغي إمكانية تأسيس تقاليد تواصلية، ترقى بالخطاب إلى ذائقته المطلوبة، وهي وضعية مربكة، قابلة للتأقلم المرن والسريع مع دينامية سلبياتها، ممسكة بزمام الواقع العربي، وبتطلعات القادم من أجياله.

وبوسع الملاحظ المهتم، ملامسة هذه التداعيات في جل القطاعات الحيوية، خاصة منها قطاعات التعليم، السياسة والإعلام، التي يمكن اعتبارها مختبرات رسمية بلا منازع، لتشكيل وعي منكفئ على قيم لا يتسرب إلى باطنها بريق أي تشكيك نظري أو مساءلة! ورغم تهافت هذا الوعي على التبختر في جبة حداثة مفترى عليها. وهي حداثة تسطير رؤى ومشاريع، ومخططات تنموية، وحضارية، قابلة بقدرة قادر على التبخر الفعلي والسريع، قبل أن يرتد لواضعيها الطرف.

لكن مقابل ذلك، يحتفظ الهاجس الأمني، براهنيته وبأولوية حضوره، حيث يمكن اعتباره قطب الرحى، ولحمتها وسداها في أي رؤية استراتيجية «تنموية» تسهر دواليب النظام على تحمل مسؤولية طرحها وإنجازها. وبالتالي، فإن استشراف آفاق أي مشروع سياسي، اقتصادي، أو ثقافي، مقترح من قبل هذه المؤسسة أو تلك، تظل مشروطة بمدى استجابتها لقيد الضرورة الأمنية. ما يعني حصر المشاريع والبرامج التنموية في تلك الشرذمة المحظوظة، المصطفة سلفا تحت مظلة النظام، والراعية لقيمه ومبادئه. وما يعني أيضا تقنين الأدوار التي تضطلع بها المؤسسة، كي تتمحور أساسا حول تعميم وضعية الإقصاء المادي والمعرفي، على أغلب الشرائح الموجودة خارج مضارب الشرذمة المعترف بها دون غيرها.

والجدير بالذكر، أن هذه الأجواء الملغومة تساهم في إحياء طقوس تتنافى مع متطلبات الحد الأدنى من العقلانية، حيث لنا أن نستحضر في هذا السياق، التهافت الملموس لدى النخب على حجز مواقعها داخل دواليب القرار، من خلال تكييف خطاباتها «التنويرية»، كي تنسجم مع معادلات الهاجس الأمني. تكييف، يغري بطرح المزيد من الأسئلة الشائكة، حول جدوى انخراط النخب في سجالات التحديث، خاصة أنها لا تتجاوز نطاق دائرتها المهمشة والمغلقة على ذاتها.

وضع الرؤية الانقلابية على رأس أولويات التغيير، من شأنه المجازفة بتكثيف زمن الفعل إلى حدوده القصوى، بصرف النظر عما يمكن أن تترتب عنه عملية التكثيف هذه من تداعيات، باعتبار أن الانصهار في بوتقة الحد الانقلابي، لن يسمح مطلقا بتقليب الرؤية العقلانية والفكرية في مفاصل اللحظة، من أجل استجلاء مكنوناتها، ومقتضياتها.

من ذلك مثلا، التساؤل عن حدود اقتناعها بمردودية خطاباتها في الحياة العامة، في ظل وقوع هذه الحياة تحت طائلة التخلف الفكري، وهيمنة القيم السلفية، بأنساقها الجاهزة، والعصية على أي انفتاح عقلاني وحداثي محتمل. ذلك أننا من خلال طرحنا لهذا الاستفسار، سوف نصطدم حتما بحاجز تلك الازدواجية الفادحة التي تعاني النخب التنويرية من شوائبها، ونعني بها ازدواجية المراوحة «المشبوهة» بين أنوار العقل ودياجير الأعراف، بما يترتب عنها من رضوخ ضمني لمتواليات التعاليم وتشدد نواميسها. وهي الازدواجية التي اهتدت بها النخب المثقفة، أو بالأحرى المنضوية تحت أكذوبة التحديث، إلى طوق أمان، يضمن لها فرص التجديف الحر في مياه متعارضة المسارات ومتنافرة الوجهات، فثمة أولا الإرضاء «النظري» التام لنداءات أهواء العقل، كما ثمة ثانيا إرضاء «الممارسة» البراغماتية، للفوز الشره بالغنائم، داخل بؤس الواقع ودامس ظلماته.

ازدواجية كانت نسبية لدى بعض أفواج الأجيال المتقدمة، المعروفة بانتماءاتها إلى التيارات المادية، حينما عقدت عزمها على عدم الفصل بين النظرية والممارسة في مناهضتها لكل تجليات الموروث اللاعقلاني، المستثمر بدراية ماكرة، من قبل دواليب السلطات الحاكمة، إلا أنها مع ذلك، لم تتمكن بدورها – بفعل استفحال حالة الأمية المعرفية – من ردم الهوة الفاصلة بينها وبين الفضاءات العامة. ما شجع السلطات على التنكيل بها سرا وجهارا، لعلمها التام بوجودها خارج دائرة الاهتمام الجماهيري، الغارق في إكراهات اليومي، والمؤطر هو أيضا بأعراف الموروث، وتعاليم الأمر والنهي، المتجذرة سلفا في تضاعيف الذاكرة المجتمعية.

وسيكون من الطبيعي أن يتقنع هذا التنكيل بإلحاق تهم الزندقة والكفر، والعبث بالقيم الروحية، وغيرها من التوصيفات المبيتة، الكفيلة بتأليب سخط العامة عليها، حتى من أقرب ذويها. وتوخيا للحد الأدنى من الموضوعية، ينبغي الإقرار بأن هذه النخب ذات التوجه اليساري، المتشبع بروح المناهج المادية، كانت أسيرة ظاهرة السجال المفتقر إلى البعد التأملي، أي السجال المهيئ لقراءة اللحظة التاريخية، ضمن شروطها الطبيعية، الواقعية والملموسة، أضف إلى ذلك، الهاجس الانقلابي المتمركز في قلب المطارحات السجالية، الذي كان يفاقم من يتم ومن اغتراب هذه النخب، ما جعلها وقودا جاهزة لتغذية نار السلطة، التي تتجدد ميكانيزماتها بتجدد تأجيجها.

وكما هو معروف، فإن وضع الرؤية الانقلابية على رأس أولويات التغيير، من شأنه المجازفة بتكثيف زمن الفعل إلى حدوده القصوى، بصرف النظر عما يمكن أن تترتب عنه عملية التكثيف هذه من تداعيات، باعتبار أن الانصهار في بوتقة الحد الانقلابي، لن يسمح مطلقا بتقليب الرؤية العقلانية والفكرية في مفاصل اللحظة، من أجل استجلاء مكنوناتها، ومقتضياتها. وبالتالي فإن القدر المحتوم – بلغة ألف ليلة – الذي يتربص بهذه التجارب التنويرية اللامكتملة، هو الإنجهاض المأساوي، حيث لا بريق محتمل لأي أفق من آفاق الانقلاب المؤمل والمرتجى. طبعا لا أحد بوسعه الطعن في الأثر الملتهب الذي تخلفه ضراوة الإحراق على طراوة الجلد، حيث بالإمكان معاينة تفاصيله في ألق الكتابة الإبداعية الطالعة من عمق أقبية السحل ودهاليزه، إلا أن ذلك، لن يحول مطلقا دون استشعار ريح الإنجهاض، وهي تكنس ما كانت قد أحدثته إلى حين، تلك الدوامات اليسارية في الفناجين الضيقة، التي دأبت دواليب السلطة على التفنن في إعدادها.