مصانع لإنتاج الإمبراطوريات والأمم إلى معامل لإنتاج العصبيات والشلل..!
د. عبدالحكيم الحسبان
من مصانع تاريخية لإنتاج الإمبراطوريات والأمم إلى معامل لإنتاج العصبيات والشلل: عن مسيرة الجامعة وأزمتها في الأردن.
وكأن ملف التعليم الجامعي بالأردن الذي يعج بالأزمات، وتتوالى عليه المحن والويلات، كان ينقصه هذا المزيد من العاديات، كي يختنق أو يصل حافة الاحتضار والموات. فمنذ أسابيع يرقب الأردنيون ويراقبون سلسلة من المشاجرات الطلابية المتنقلة، ومن حوادث العنف الجامعي التي لا توفر منطقة جغرافية من مناطق البلاد شمالا ووسطا وجنوبا، وأدت لتعطيل الدراسة وتشويشها في أكثر من جامعة، ناهيك عن جبال من الضرر الاجتماعي, والاقتصادي, والأخلاقي الذي يحدثه هذا النمط المتواتر من العنف الجماعي في حاضر البلاد ومستقبلها.
وكما في كل مرة يحدث فيها هذا العنف المنفلت من عقاله، تتواتر التصريحات، وتتكرر العبارات من قبل إدارات التعليم العالي في البلاد، ومن قبل الإدارات الجامعية. وأما ما يصدر عن هذه الإدارات من بيانات فهو في الغالب شحيح ومقتضب، وكأنه يخشى أو يخجل من مصارحة الأردنيين بالذي جرى ويجري داخل ساحات الجامعات ومبانيها. وتتضمن هذه البيانات حول أحداث العنف الجامعي عبارة بات الأردنيون يحفظونها عن ظهر قلب حول نية الجامعة اتخاذ أقصى العقوبات الرادعة بحق المتورطين في أحداث العنف الجامعي، وليكتشف الأردنيون لاحقا أن ما وعدوا من إجراءات رادعة لم يكن بمقدورها مطلقا أن تردع، وليطل العنف الجامعي برأسه من جديد برغم كل تصريحات المسئولين الجامعيين عن نيتهم الضرب بيد من حديد, وعن الإجراءات القانونية الفولاذية التي سيتخذونها.
وفي موازاة مشاهد المشاجرات والعنف الجامعي الذي بثته وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، كانت هناك مشاهد متواترة سبق وأن شاهدت بعضها عبر أحد نوافذ المبنى الذي أعمل فيه في جامعة اليرموك، وحيث احتشد عشرات الطلاب يصل عددهم ربما إلى 70 أو 80 طالبا، وتجمعوا في حلقة دائرية وهم يحملون راية قيل أنهم اختاروها علما للعشيرة التي ينتمون إليها في محافظة إربد. وفي هذا التجمع رفع علم العشيرة، وتم الاحتفاء به غناءا ورقصا، ولم يسجل في هذا التجمع أي ظهور للعلم الوطني الأردني. وأما على منصات التواصل الاجتماعي من فيس بوك، وتيك توك، فالمشاهد التي توثق لانخراط بعض طلبة الجامعات في تجمعات عشائرية، أو مناطقية مع رفع أعلام، ورايات للعشائر التي ينتمون إليها، كثيرة وعديدة.
في التنظير حول ظاهرة العنف الطلابي، والمشاجرات الجامعية، ورفع الرايات العشائرية يسود خطاب تبسيطي وتسطيحي للظاهرة، وهو يرى فيها مجرد أحداث عابرة، ودخيلة، وآنية، وقطاعية محدودة، بمعنى أنها تتعلق بعدد محدود من الطلبة ذات التكوين السيكولوجي أو التربوي المنحرف، والغريب عن الجامعة والمجتمع والجماعة. ويصدر هذه الخطاب في الغالب عن جهات متعددة من قيادات جامعية، وأقلام صحافية. وفي هذا الخطاب التسطيحي والتبسيطي يهيمن عقل أمني ينظر إلى هذه الظاهرة من منظور الظاهرة التي تخرق الأمن، وينبغي أن تختفي كي يعود الاستقرار والهدوء المجتمعيين. وفي هذا النمط من الخطاب ثمة عجز عن رؤية الجذور العميقة والبنيوية والتاريخية للظاهرة التي تتجاوز الخلل السيكولوجي أو النفسي لدى المنخرطين بها من طلبة، لتكون في الجوهر وفي العمق هي أزمة جامعة، وثقافة، ومجتمع، ودولة. فالعنف الجامعي ورفع رايات العشيرة بدلا من العلم الوطني، لا يمكن اختزالها مطلقا في النفس المنحرفة والمريضة لمجموع الإفراد المنخرطين بها، بل هي موجودة في المجتمع ونسق الدولة وبنيانها الذي اخترنا أن نشيده، ونبنيه. والحال، أن أزمة العنف الجامعي، هي أزمة دولة ومجتمع وثقافة مجتمع، قبل أن تكون أزمة تكوين نفسي أو تربوي لمجموعة من الشبان أو طلبة الجامعات.
في تفكيك مشاهد العنف الجامعي وفي ربطها بأزمة الجامعة وإدارتها في الأردن، سوف أذهب إلى الجذور التاريخية لظاهرة الجامعة والتعليم الجامعي. فمن اللافت لكل ذي عقل، أنه وفي حين تم اشتقاق مفردة School بالانجليزية و Ecole بالفرنسية من اللفظة اللاتينية escola والتي تعني "مكان التعلم أو الدراسة"، فإن لفظة University بالانجليزية، Université بالفرنسية تم اشتقاقهما من مفردة مختلفة كثيرا عن مفردة المدرسة. ففي حين مثلت المدرسة في التطور التاريخي للمجتمعات الغربية مكانا لاكتساب السلوكيات والمعلومات، وهي فضاء للتعلم والتعليم، فإن الجامعة مثلت فضاءأ مختلفا عن المدرسة. فالمكان الذي نسميه جامعة لم نشتق أسمه من أي مفردة تشير إلى فعل "التعلم" و"التعليم" كما هو حال مفردة المدرسة، بل اشتقت كلمة University من مفردة Universe أي الكون وحيث يحيلنا مفهوم الكون إلى التنوع، والتعدد، والكثرة، والاختلاف. وعليه، ففي التطور التاريخي للمجتمعات الغربية التي طورت مفهوم الجامعة، وظهرت فيها أقدم الجامعات، وأعرقها كانت الجامعة تعبيرا عن حاجة تاريخية في هذه المجتمعات تجاوزت عمليات اكتساب المعلومات والمهارات التي تقوم بها المدرسة. فالمدرسة مثلت فضاء تجري فيه انشطة مكثفة لاكتساب المعلومات والمهارات للافراد، وأما الجامعة فقد نشأت لتلبي حاجات، ووظائف مختلفة، ولتؤدي مهمة تاريخية مخلتفة عن دور المدرسة، وإن كان مكملا لها.
وفي فهم سبب اختيار لفظة الكون Universe لتشتق منه لفظة Univerrsity من المهم النظر في الدور التاريخي الذي كانت تتوخاه المجتمعات الغربية على صعيد الانتقال من عصر الإقطاعيات والجماعات الإقطاعية, وحيث بلد كفرنسا كان يتشكل قبل عصر الجامعة والجامعات من مئات من الإمارات الإقطاعية التي كان لكل منها جيشها، واقتصادها، ولغتها، وطائفتها الدينية حتى القرن الخامس عشر، بات يحتاج في عصر المكننة، والتصنيع، والرأسمالية إلى إزالة الحدود اللغوية، والجغرافية، والدينية التي تفصل بين الامارات الاقطاعية المتصارعة ليتم خلق الدولة القومية الفرنسية الكبيرة، والموحدة بالشكل التي نعرفها اليوم، وحيث هناك علم واحد، وجيش واحد، ولغة واحدة، واقتصاد واحد. في فرنسا، كما في إيطاليا وألمانيا، مثلت الجامعة فضاءا هدفه أن يجمع ما هو متنوع، وأن يوحد ما هو مختلف، وأن يوسع ما هو ضيق، من هويات فرعية؛ إثنية أو دينية، وحيث كانت مجتمعات الغرب غارقة في الهويات الدينية، والمناطقية، والاثنية، الضيقة والمتصارعة فيما بينها.
وجنبا إلى جنب مع هذا الدور، لعبت الجامعة في السياق الغربي دورا هاما على صعيد تعزيز القيم والأخلاقيات الكونية في مقابل القيم المناطقية، والعشائرية، والدينية، والاثنية. فالتصنيع والرسملة والانتقال للدولة القومية الكبيرة، تطلب منظومات من القيم للافراد تقبل أن تمارس عمليات البيع والشراء، وقرارات للزواج، وحركة لتنقل البضائع والأفراد تتجاوز النطاقات الجغرافية المحدودة التي تحددها الإمارات الإقطاعية، فكانت الجامعة هي الفضاء الأمثل لتعزيز القيم الكونية الحداثية Modern and Universalistic في مقابل القيم التقليدية الضيقة Traditional and Particulastic . كما لعبت الجامعة أدوارا اجتماعية وانثروبولوجية هامة على صعيد العلمنة، والبناء التاريخي والحقوقي لمفهوم الفرد، كما على صعيد تعريف أعضاء الأمة أو المجتمع، وتمثلهم بصورة تجريدية Abstract باعتبارهم مواطنين يتشاركون نفس الانتماء للأرض أو إقليم الدولة، ما يجعلهم متشابهين ومتساويين بغض النظر عن لون، وعرق، وجنس، وشخص كل واحد منهم. فالجامعة في الغرب مثلت الفضاء الذي يمكن لكل الهويات المتباينة لغويا وعرقيا ودينيا، أن تلتقي، وتتفاعل، وتتزاوج، وتتبادل الأفكار، والمشاعر، والانتماء، وهي كانت الوسيلة الفضلى في تكسير الروابط والهويات الضيقة السابقة لمفهوم الأمة والدولة القومية الحديثة.
وعليه، ففي السياق الغربي، كانت المدرسة والجامعة فضاءات، وأدوات فاعلة للتغيير والتحديث وللانتقال بالفرد الغربي من حال العيش والتفاعل داخل حدود الامارة الاقطاعية التي يعيش ضمنها، إلى سياق المواطنة والمواطنية والدولة القومية الكبيرة. وإلى جانب هذا الدور التاريخي على صعيد بناء الهويات الواسعة التي تتجاوز الهويات الضيقة، كانت الجامعة مصدرا للتغير في المجتمعات الغربية بسبب نظام التفاوتات أو التباينات الهرمية التي انتجتها الجامعة. ففي مقابل مجتمعات تبنى المكانة الاجتماعية فيها بالاعتماد على ملكية الارض، أو الانتماء للكنيسة الكاثوليكية، أو الانتماء للعشيرة أو الطائفة، فقد باتت الجامعات بما تمنحه من شهادات هرمية، وبما تتضمنه من رتب أكاديمية مختلفة وهرمية، مصدرا لخلق تفاوتات حديثة وحداثية، في مقابل الهرميات التقليدية السابقة. فالمجتمع الذي كان يقبع في أعلى الهرم فيه، رجل الدين الكنسي، وشيخ الطائفة، ومالك الأراضي الإقطاعي، صار رجل العلم بما يحمل من رتبة اكاديمية هو في قلب الهرميات الاجتماعية التي تحكم المجتمعات الغربية.
وبالعودة إلى حال الجامعات في الاردن، والحديث عن ظواهر العنف الجامعي، ورفع رايات العشيرة وأعلامها بدلا من العلم الوطني، فالمشهد الجامعي في الأردن يعيش أزمة حقيقية، إن لم نقل معضلة بنيوية. فالجامعة التي اشتق اسمها حتى في اللغة العربية، ليس من الجذر اللغوي الذي يشير لفعل التعلم والتعليم، بل يشير إلى الفعل السوسيولوجي الذي يحمل معنى الجمع، ولم الشمل، وتوحيد ما هو متنوع، باتت مصنعا لتعزيز الهويات الضيقة بدلا من الهويات الكونية. فسياسة بناء جامعة في كل محافظة أو مدينة، وحيث كل جامعة هي جامعة شاملة تحتوي على كل التخصصات، أفقد الجامعة طابعها وهويتها باعتبارها جامعة وطنية، ففي كل واحدة من جامعاتنا بات اكثر من 60 بالمئة من طلبتها، والعاملين بها هم من نفس البيئة الاجتماعية والجغرافية التي أقيمت بها الجامعة. فمعظم طلاب الجامعة وموظفيها وأساتذتها باتوا من الجوار الديموغرافي والاجتماعي والثقافي القريب من الجامعة والذي يشبه الجامعة. وأما مشاكل الجامعة وما يجري فيها، فقد بات يتداخل مع ما يجري في الحارة، والمضافة، والأزقة الملاصقة لها من صراعات وتوترات. فأحاديث المضافة الملاصقة للجامعة ليلا باتت هي الموضوعات على الأجندة للجامعة في اليوم التالي، والصراعات العشائرية التي تجري في المضافات، والحارات الملاصقة للجامعة باتت هي ذاتها التي تجري في اليوم التالي في الحرم الجامعي.
فحين يكون نسيج الجامعة الأكاديمي من طلبة وأساتذة وإداريين هو ذات النسيح الاجتماعي والثقافي والديموغرافي للبيئة التي وجدت داخلها الجامعة، فكيف للجامعة أن تحدث التغيير؟ وأن تكون أداة للتحديث؟. فالجامعة التي تشتمل في كوادرها طلبة وعاملين على ذات مكونات المجتمع المحيط لن تكون مطلقا أداة للإنتاج، والتحديث، والتغيير، بل هي في أحسن الحالات ستكون أداة لإعادة إنتاج المجتمع الموجود المحيط، بكل الأمراض وعوامل التحنط والجمود التي يعاني منها. وفي هذا المقام، فان من المهم الإشارة إلى إن كثيرا من الجامعات الأميركية المتميزة ترفض أن تعين من نفس خريجيها، وتفضل أن تعين من تخرج من جامعات أخرى، خوفا من أن يسود منطق إعادة الإنتاج المدمر، بدلا من منطق الإنتاج الذي يعني الابتكار والتحديث والتجديد.
وفي أزمة الجامعة في الأردن على صعيد الشجارات العشائرية، من المهم النظر ايضا في كيفية تطور مشاهد الشجار التي تبدأ بحادث شجار بين شخصين بصورة طبيعية قد يحدث في أي جامعة في دول العالم، ولكن ما هو غير طبيعي في بلادنا هو الكيفية التي يتطور بها هذا الشجار الذي حدث بين فردين وبصورة طبيعية. فالشجار الذي يبدأ بين شخصين، يتحول في دقائق قليلة إلى شجار جماعي، عشائري أو مناطقي أو طائفي. والسبب، هو أننا في الأردن لم ننتج بعد الشخص الحداثي، الذي هو الشخص الفرد أو الفردي، بل ما زلنا دولة ومجتمعا، ننتج الشخص الجمعي أو الجماعي. وهنا يكمن بؤس العلة، وهنا تكمن خطورة النتائح المحتملة. ففي البلاد التي يسود بها الشخص الجمعي، يمكن لشخص أحمق واحد بما أنه ليس شخصا فردا، بل شخصا جماعيا، أن يدخل مدينة أو حتى دولة بكاملها في الأزمة، وفي أجواء الحرب وعدم الاستقرار.
وفي الختام، فالأزمة أو المعضلة هي في جزء منها تعود إلى هذا العقل التكنوقراطي الذي يشخص ويدير وينظر في الشأن الجامعي وينظر للجامعة باعتبارها مجرد فضاء تعليمي أو تعلمي أشبه بالماكنة، دون ان يلتفت ولو مجرد التفاتة صغيرة إلى المكونات السوسيولوجية، والثقافية، والانثربولوجية في هذا الفضاء الذي نسميه بالجامعة،, والذي لا يقيم أي صلة بين الجامعة ومجمل العناصر الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والدينية، واللغوية، والأخلاقية للسياق الذي تعيش الجامعة وسطه، وتتعايش معه، وهو وان مارس "ترف" النظر في هذه المكونات والعوامل الاجتماعية، فانه لا يلتفت إليها استنادا لنتائج بحث علمي اجتماعي أو أنثروبولوجي قام به مختصون بهذه العلوم، بل يقوم هذا العقل التكنوقراطي بالحديث بها والتنظير بشأنها، من خلال الحس العام أو الثقافة العامة common sense التي راكمها عطوفته أو معاليه من خلال قراءة الصحف، أو متابعة بعض البرامج التلفزيونية.
فهل آن الأوان وبعد ستة عقود ونيف من بدء الحياة الجامعية في الأردن، لإعادة تعريف الجامعة والفضاء الجامعي في الأردن! وهل آن أوان التخلص من هوس التصنيفات العالمية الكمية التي يلهث بعض من صناع القرار في مؤسسات التعليم العالي ورائها؟