أين نحن من “دراسات الدولة”؟

 أحمد حمد الحسبان

بينما تحرص كل وزارة أو دائرة أو مؤسسة على إصدار تقريرها السنوي، تتفاوت أهمية تلك التقارير من حيث المحتوى. فبعضها ينطبق عليه الوصف بأنها لا تساوي كلفة طباعتها، وبعضها الآخر يمكن وصفها بأنها كنز ثمين بحكم ما تحتويه من معلومات.

غير أن النوعين ـ لدينا ـ يتساويان من حيث تدني مستوى الفائدة المتحققة من مضامينهما باعتبار أن الجهة التي تصدر التقرير تكتفي عادة بإصداره، وتتنافس مع الدوائر الأخرى ضمن إطار الجماليات الفنية المكلفة، بدءا من نوع الورق المصقول المستخدم والطباعة النافرة والملونة وغير ذلك من أشياء.

وللإنصاف، فإن تلك الحقيقة لا تشمل كافة الجهات الرسمية، فبعضها يحرص على إثراء تقاريرها بالمعلومات المهمة، والاقتصاد في الكلفة، والحرص على إرسالها لبعض الجهات الأكاديمية والإعلامية أملا بالاستفادة من كم المعلومات فيها. مع علمها بأن مستوى الفائدة يكون ضمن أضيق نطاق ممكن.

فبعض التقارير تحتوي معلومات على درجة عالية من الأهمية، لكن أهميتها تتضاعف فيما لو تم توظيفها في دراسات وأبحاث تكون أساسا لتشخيص التغيرات المجتمعية التي لم تعد تخفى على أحد، وعلاج الكثير من الإشكالات الناجمة عنها. وتمكن مؤسسات الدولة أن تبني خططها وفقا لدراسات تعتمد على تلك المعلومات وبخاصة التي ترتبط بقضايانا الاجتماعية وتداعياتها الأمنية والسياسية والاقتصادية.

فلنأخذ مثلا، المعلومات الرقمية المهمة التي تضمنها تقرير دائرة قاضي القضاة الذي صدر قبل أيام، والتي تعطي انطباعا بحدوث تغيرات مجتمعية لافتة.

من تلك الأرقام ما يؤشر على تغيرات طالت حالات الزواج ونسبة الطلاق، والنزاعات الزوجية وقضايا النفقة والكثير من القضايا المتعلقة بالأحوال الشخصية خلال العام الفائت مقارنة مع أعوام سابقة.

وهناك معلومات على درجة عالية من الأهمية ترصدها دوائر الأمن العام، ومنها قضايا حماية الأسرة، ومكافحة المخدرات، والقضايا العادية بدءا من حوادث السير وانتهاء بالخلافات والشجارات، والتي يمكن الاستفادة منها في إجراء دراسات بحثية معمقة تشخص الحالة، وتفيد المخططين في وضع التصورات والإجراءات اللازمة لتصويب الخلل الذي بتنا نحس به كأفراد ونرصد بعض مظاهره بعيدا عن الطرق العلمية والمتخصصة.

ومنها المعلومات التي ترصدها جهات تتعامل مع الفقراء والمحتاجبن، كوزارة التنمية الاجتماعية وصندوق المعونة الوطنية. والجهات المعنية بالشؤون الصحية كوزارة الصحة والمستشفيات الجامعية والمتخصصة.

ومنها التقارير المالية والاقتصادية الصادرة عن البنك المركزي، والوزارات المعنية، إضافة إلى تقارير دائرة الإحصاءات العامة.

بالطبع، لا لوم هنا على الجهات صاحبة التقارير التي اكتفت بإصدارها فقط ووضعت ما يحتويه من معلومات بين أيدي المهتمين، فالعملية التي أتحدث عنها تحتاج إلى جهة بحثية متخصصة، وقد تكون على شكل مؤسسة للأبحاث المجتمعية بمستوى عناصر الدولة العميقة، مهمتها تحليل تلك المعلومات والأرقام، وإجراء دراسات ميدانية عليها، وصولا إلى نتائج علمية، وتوصيات يستفاد منها في مجال تطوير الواقع ومعالجة الخلل، وتصويب وترشيد القرارات والإجراءات على مستوى الدولة.

ويمكن لتلك المؤسسة التي نأمل أن لا تشكل زيادة في عدد الهيئات والمؤسسات المستقلة، أن تستفيد من إمكانات أساتذة الجامعات، والباحثين في رسائل الماجستير والدكتوراه، ضمن أسس وضوابط تضمن جودة البحث وميدانيته والتصاقه بالقضايا المجتمعية التي تحولت إلى أمراض اجتماعية واقتصادية. وأن يتم ضبط ذلك من خلال قانون للبحث العلمي ينهض بهذا الملف إلى المستوى المأمول وبحيث تكون دراساتنا دراسات دولة بكل ما تحمل الكلمة من معنى.