شركاء في الخيبات، وضحايا لها أيضا

حسين الرواشدة

لدينا “وفرة” من الإنتاج السياسي، ‏عشرات المجلدات من الخطط والأجندات، ومخرجات اللجان، ومثلها، خبراء في السياسة، يتبادلون الكتابة، ويتناوبون على الشاشات والندوات، الناس في بلدنا تعترف بالسياسة، وتتحدث باسمها، تبحث فيها عن الحل، وتعتقد أنها مصدر البلاء، إنتاج وفير، لكنه في الغالب بلا جودة حقيقية، وبلا معايير للتصنيع، يستنكر له، أول من يستنكر، أصحابه والمروجون له، والنتيجة مكدسات في الخزائن، او اعوجاج وسوء في التطبيق.

يتحدث أغلبية الأردنيين في السياسة، لكن ثلثيهم استقال من العمل شركاء في الخيبات، كما نحن ضحايا لها أيضا. العام، والمشاركة بتحريك العجلة السياسية، كما يتحدث أغلبية المسؤولين في السياسة والإصلاح والمشاركة بالعمل العام، ولكن قليلا منهم من يؤمن بذلك، او من يفعل لأجل ذلك ما يجب أن يفعله، هذا وجه “للشيزوفرينيا” التي أصابتنا، وتمكنت من شخصيتنا، وانعكست على سلوكنا.

حين غابت الثقة وتراجعت الجدية، وانحسرت الحسابات بأضيق الحدود، وتعالت صرخات اليأس، تعطلت ” ماكينة” الدولة عن إنتاج ماركات سياسية حقيقية، تقنع الجمهور، ونخب موثوق بها قادرة على تحريك السوق، ” وزبائن” تدفع من وقتها وجهدها ما يلزم لشراء المعروض.

لدينا، أيضا، مخزون فائض من المجاملات الاجتماعية، ‏نحن اكثر من يتكلم عن الخير والمعروف ومساعدة الآخرين، وأكثر من يكتب ويتباكى أحيانا علي اليتامى والراحلين الذين قد لا نعرفهم، جاهزون للفزعة وقت الطلب، لكننا في الغالب لا نثق ببعضنا، ولا نحترم المخلصين والمبدعين بيننا، تضج جلساتنا بالوشاية، وأسواقنا مزدهرة بالكراهية، نوزع الاتهامات على بعضنا لمجرد إشاعة من مجهول.

هذا وجه آخر ” للشيزوفرينيا” الاجتماعية التي تمارسها الحكومات، مثلما تمارسها المجتمعات، ‏فنحن أسعد ما نكون بالمصاهرات الاجتماعية حين تختلف اصولنا وأنسابنا الديموغرافية، لكننا نفرز أسوأ ما لدينا، حين نتجادل حول المصاهرات السياسية، ونبدأ بحسابات المحاصصة ونتبادل وصفات المظلومية، ما تزال تسكننا عقد الخوف من المستقبل والحاضر، ‏والانتقام من الذات والآخر، والإحساس بالانقسام والتشتت وتكسير الرموز، والتيئيس من القرارات، والهروب للماضي والاستغراق فيه.

يمكن -أيضا – ان ندقق بمجالات أخرى كثيرة، التدين الذي نمارسه، مثلا، ‏في دور العبادة، وعند الخروج منها للبيوت والأسواق، القيم الدينية والأذكار والدعوات والتقوى التي نرددها بألسنتنا وصلواتنا، ثم لا نجد لها أثرا في الواقع العام، الدين – للأسف- تحول أحيانا إلى ” سوبر ماركت” كبير، نذهب إليه عند الحاجة، ونشتري منه ما نريده، الدين أيضا اصبح مشجبا نعلق عليه فشلنا، ونرفعه لتبرير اخطائنا، ونهرب إليه من عجزنا عن فعل ما يجب أن نفعله بأيدينا، وليس ما يفعله الغيب بالنيابة عنه.

فيما مضى، كان أغلبية الأردنيين فقراء، لكنهم يتدبرون “المعاش” القليل، ويمدون أرجلهم على قد ألحفتهم، وينتجون اكثر، ‏الفقر كان دافعا للعصامية، وعنوانا لعزة النفس، قلما يشتكي الأردنيون، آنذاك، او يقبلون “مدَّ اليد”، الآن لا نسمع إلا صوت الفقر والشكوى، والبطالة والاستهلاك، والاعتماد على المعونات والمساعدات، هذا الفقر لم تصنعه الحكومات فقط، وإنما نحن شركاء فيه أيضا، وهذا الفقر الذي نلعنه تحول إلى “حالة” تلبستنا، وأصبحنا ننتظر من يطردها عنا بشيء من البخور، وكثير من نهم الاستهلاك.

نعم، ننتقد الحكومات ونحاسبها، ونجلد قراراتها أيضا، لكن بموازاة ذلك يجب ان ندقق بصورتنا، ليس لجلد الذات، او الانتقاص من الإيجابيات، او المبالغة بالنقد وافتعال المبررات، ‏وإنما للاعتراف بما فعلناه بأنفسنا، ثم ما فعله الآخرون بنا، هذه أول خطوة للخروج من دائرة الإحساس بالمظلومية، وتحميل الآخرين، وحدهم، مسؤولية ما حدث لنا، نحن أيضا جزء من الأزمة، وشركاء في الخيبات، كما نحن ضحايا لها أيضا.