حوار ساخن ومطول بين "شعبوي للغاية" و"واقعي جداً"

عريب الرنتاوي

بترفع وخيلاء باديين، يُلقي صديقنا "الواقعي جداً"، باتهاماته يُمنة ويُسرة، صوب محاججيه ومجادليه من أصحاب وجهة النظر المخالفة، بالتهمة المعلبة الجديدة، بعد أن تقادمت تهمة "الأجندات الخارجية"، وهي: "الشعبوية"، وأحياناً يضيف إليها "الرخيصة" ، غير مميز غالباً، بين ثلاثة أصناف من المحاججين والمجادلين: أول؛ يصدر عن غصة في القلب وحرقة في المعدة لما آلت إليها حالنا، وثانٍ؛ يصدر عن ثقة معززة بالوعي والإدراك لانسداد المسار السياسي الممتد منذ مدريد – أوسلو – وادي عربة، وثالث؛ أقل حضوراً، يبحث عن "شعبوية" قد توفرها له فرص الانسداد الأخطر في مسارات القضية الفلسطينية.

في المقابل، وبإحساس بالنقاوة والطهارة الثوريتين، لا يسنده رصيد أو مبرر، ينبري بعض "شعوبيينا" إلى إطلاق الاتهامات جزافاً، يُمنة ويُسرة كذلك، ولا يتورع عن توزيع صكوك الغفران وشهادات الوطنية على هذا أو حجبها عن ذاك...لا يتسع قاموس صديقنا "الشعبوي" سوى لعدد قليل من المفردات، تقف عاجزة عن تفسير ما يجري من حولنا، وهو الأقل عناية بهذا الشأن على أية حال.

كلا الصديقين،"الشعبوي للغاية" و"الواقعي جداً"، ليسا في واقع الحال، سوى وجهين لعملة واحدة، مقاربتيهما تصبان في البوتقة ذاتها، ومآلاتهما هزيمة مؤكدة .... كلاهما يعتمدان خطاباً "سطحياً ومُسطّحاً"، ذا بعدٍ واحد، وغالباً، قصير النظر، وبرغم الفجوة الظاهرة بينهما، إلا أنهما في نهاية المطاف، يثيران الشفقة والإحباط، إذ يقترحان طرقاً مسدودة وسبلاً محفوفة بالمخاطر، لا تفلح في جلب منفعة أو درء ضرر.

ولغايات إنجاز حوار مجدٍ ينفع الناس ويبقى في الأرض، سنوفر في هذه المقالة، منصة لتبادل الآراء، وليس الاتهامات، بين مدرستين في التفكير السياسي والاستراتيجي، أولى متهمة بالواقعية وثانية بالشعبوية، وسننتقي أهم ما يرد في خطابيهما من "سمين" الأفكار والطروحات، فلا متسع لـ"الغث" منها، وهو كثير:

"الواقعي":

لقاء العقبة خرق كبير استحدثته الدبلوماسية الأردنية، أعاد إليها الاعتبار بعد سنوات "التهميش الترامبي"، وبعد أن انتقل الملف الفلسطيني لعدة سنوات، إلى عواصم قريبة "القاهرة" وبعيدة "الدوحة والجزائر".

"الشعبوي":

الأهم من استحداث الاختراق، معرفة وجهته واتجاهه، فلقاء العقبة كان أمنياً بامتياز، والسياسة فيه لم تكن سوى "ورقة تغليف" باهتة الألوان، للتغطية على مضمونه الأمني بامتياز، ونقول باهتة لأن أربعة من خمسة أطراف شاركت في اللقاء، تلتقي على "رؤية حل الدولتين" لم تنجح في إيرادها في نص البيان الختامي...ثم أن الاختراق يسجل في صالح الدبلوماسية الأمريكية، التي أنجزت "موسم حجيج" إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة خلال الأشهر الفائتة، ومضمون اللقاء "التهدئة مقابل تَقدِمات اقتصادية"، هو جوهر المقاربة الأمريكية للشأن الفلسطيني، ولا شيء في العقبة من قبل، أو في شرم الشيخ من بعد، يخرج عن إطار المقاربة الأمريكية تلك.

"الواقعي":

التهدئة مطلب فلسطيني ومصلحة أردنية، ومن دونها قد يحدث ما لا تحمد عقباه، وسنجد صعوبة فائقة في قطف ثمار "مشاريع التكامل الإقليمي"، ونحن كفلسطينيين وأردنيين في أمس الحاجة إليها.

"الشعبوي":

التهدئة مطلب السلطة وليس الشعب الفلسطيني، ألم تأتك أرقام الاستطلاعات التي تنشر تباعاً في فلسطين، والتي تظهّر غالبية فلسطينية كاسحة، تدعو للمقاومة بمختلف أشكالها، ألم تسمع عن زيادة ملحوظة في أعداد المؤيدين لخيار الكفاح المسلح والعمليات العسكرية، ألم تر إلى التجاوب الشعبي الهائل مع ظواهر المقاومة الفردية وما تجلى في نابلس وجنين وأريحا: "عرين الأسود" و"كتيبة جنين" وغيرهما، دع عنك حكاية "مطلب فلسطيني" وقل مطلب السلطة وحاجتها للبقاء والاستمرار، وهي التي تهمّش دورها وتهشمت صورتها، وبات تأييدها في أوساط شعبها لا يجاوز العشرة بالمئة.
التهدئة مفهومة، وقد تصبح مطلوبة رسمياً وشعبياً، إن كانت مشروطة بوقف الاستيطان والعدوان والتعديات على الوصاية، فهل لديك ما ينبئ باستعداد إسرائيل لفعل ذلك، هل لديك أوراقاً تكفي للضغط على إسرائيل لوقف هذه التعديات، وهل تستطيع الجزم بأن واشنطن بصدد تفعيل أوراقها، ليس الآن فحسب، بل ولسنوات عشر قادمة؟ ... ألم تصلك أنباء السباق بين قادة إسرائيل، حكومة ومعارضة، على تأكيد الالتزام باستيطان "يهودا والسامرة"، قبل "العقبة" وبالأخص بعدها؟ ... ألم تتناه إلى أسماعك الاتفاقات الائتلافية بين أحزاب الحكومة، وقبلها ما أنجزه "طيبا الذكر": نفتالي بينت ويائير لبيد؟ ... الهدنة مطلوبة، ولكي تصبح ذات جدوى، يجب أن تكون مشروطة، وبخلاف ذلك نضع الفلسطينيين أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الرضوخ للزحف الاستيطاني وتمكينه من المرور بسلاسة وهدوء وأقل الأثمان، وإما التصدي للاستيطان والعدوان والاحتلال ورفع كلفها، فماذا تقترح عليهم؟

ألا تعلم يا صديقي "الواقعي جداً"، أن فتح نافذة للدبلوماسية واستجرار كبار المسؤولين الأمريكيين للمنطقة، ما كان ليحدث لولا مقاومة الشعب الفلسطيني ولولا تصاعد وتيرة المواجهة بين احتلال غاشم وشعب مقاوم، الاختراق الدبلوماسي، أردنياً كان أم أمريكياً، مدين لشبان القدس وبلاطة وجنين ونابلس، ومن دون ذلك، لا مطرح للدبلوماسية والدبلوماسيين .... غريب أمركم أيها الواقعيون جداً، وأنتم تتجاهلون حقيقة أن القضية الفلسطينية تغيب تماماً عن الأجندة الدولية عندما يخمد أوار مقاومة الشعب الفلسطيني، وتحضر بقوة عندما تشتعل مقاومته، فما الذي تريدونه، الحضور أم الغياب؟

"الواقعي":

بل غريب أمركم أنتم معشر "إلقاء اليهود في البحر" و"تجوّع يا سمك"، لكأنكم لم تستفيدوا بعد من دروس الهزائم العربية، ولم تدركوا أهمية إحراج إسرائيل في المحافل الدولية، بـ"هجوم السلام العربي"، خيارانا الاستراتيجي الوحيد.

"الشعبوي":

لسنا مع إحياء "الخطاب السعيدي"، نسبة إلى أحمد سعيد، فقد ارتد وبالاً على شعبنا وأمتنا، ولكن دعنا نذكر أن العمر الافتراضي لذلك الخطاب امتد من 1948 إلى 1967، أو بعدها بقليل، عقدين أو عقدين ونصف على الأكثر، بعدها، قبل العرب بمبادرة روجرز والقرار 242، ومنذ ثلث قرن والعرب في عملية سلام فارغة من كل مضمون، وقبلها (منذ نصف قرن تقريباً) أبرمت كبرى الدول العربية معاهدة سلام منفرد مع إسرائيل وخرجت من معادلات الصراع معها، وقبلت المنظمة قبل نصف قرن كذلك، برنامج النقاط العشرة، وبعدها تحولت السلطة إلى وكيل أمني للاحتلال، وصمتت الجبهات وهدأت الحدود ... عمر عملية السلام وخطابها "الواقعي جداً"، أطول بكثير من سني الحرب والمواجهة والخطاب "السعيدي"، العالم يدرك ذلك، وليس سوى إسرائيل اليوم من يذكر بالحقبة "السعيدية"، فما الذي ترتب على كل ذلك غير اقتطاع الأرض والحقوق والمقدسات، وانتهاك سيادة الدول، ومشاريع إدماج إسرائيل في المنطقة قبل حل القضية، وتفاقم ميل مجتمعها للتطرف الديني والقومي (الفاشي،العنصري)، قلتم أن السلام والتطبيع يبعثان برسائل طمأنة لإسرائيل، تعزز ميلها للاعتدال، ويسرع جنوحها نحو السلام والتعايش، فماذا جنيناً بعد كل هذه العشريات من السنين، وبالأخص بعد الاتفاقات الإبراهيمية، واسمها الحركي الجديد: مشاريع التكامل الإقليمي"، سوى بن غفير وسموتريتش واندثار اليسار وتآكل معسكر السلام في إسرائيل.

"الواقعي":

ولكننا ننجح يومياً في تعرية إسرائيل وكشف "بلطجيتها" أمام المجتمع الدولي، ونكسب مواقع جديدة لصالح القضية الفلسطينية والموقف العربي، وهذا ما تجلى بالخصوص بنتيجة لقاء العقبة.

"الشعبوي":

دبلوماسيتكم أخفقت في عزل إسرائيل دولياً، ونسبة التأييد للقضية على المستوى الرسمي والحكومي حتى في الدوائر المحسوبة تاريخياً على المواقف العربية (أفريقيا، آسيا، أمريكا اللاتينية، الدول الإسلامية وعدم الانحياز) في تناقص، أما على المستوى الشعبي، الرأي العام العالمي، نعم، إسرائيل تفقد حواضنها، و"شرعيتها" تتآكل، والفضل في ذلك يعود لمقاومة الشعب الفلسطيني وأجياله الجديدة وحركات المقاطعة، وتنامي الرفض العالمي للعنصرية والفاشية و"الشعبوية"...مقاومة الشعب الفلسطيني في الوطن المحتل والشتات، هي من يستحدث هذا الاختراق، ولولا بقايا جيوب داعمة لفلسطين كما حصل في اجتماعات الاتحاد الأفريقي (الجزائر وجنوب أفريقيا) لحلت إسرائيل ضيفاً عزيزاً مكرماً على القارة السوداء، أين دول الاعتدال والتطبيع العربية الأفريقية من هذه المعركة؟ ...تطبيعكم و"واقعيتكم" شجعت دولاً عدة على الاقتراب من إسرائيل، فيما مقاومة الشعب الفلسطيني ما تزال شوكةً في الحلوق.

"الواقعي":

وما الذي تريدنا أن نفعله، فالسلطة الفلسطينية هزيلة ومتآكلة، والانقسام الفلسطيني يتعمق باستمرار، ويشكل عقبة في وجه أي مبادرة سياسية ذات مغزى، وحماس تكتسب شعبية متزايدة في الضفة الغربية، وقد "ترث السلطة وما عليها"، هل هذا المصير يريحكم أيها "الشعبويين"؟

"الشعبوي":

لماذا أولاً، نضع كل أوراقنا في سلة سلطة هذه مواصفاتها وهذا واقعها؟ ... ألم نقترح عليكم تنويع علاقاتنا مع مختلف الفاعلين الفلسطينيين، في كل الساحات ومع مختلف الفصائل؟ ... لماذا انسحبتم من أي دورٍ في موضوع المصالحة، وهل العلاقة مع الأشقاء تبرر استنكاف أكثر دولة متصلة جغرافياً وديموغرافياً وتاريخياً بفلسطين قضيةً وأرضاً وشعباً ومقدسات، عن القيام بدور ريادي في هذا المضمار؟

ولماذا أغلقتم الأبواب في وجه حماس بعد انتخابات 2006، ألم نقل لكم، وفي حينه، وليس اليوم (من باب ادعاء الحكمة بأثر رجعي)، أن كل باب يغلق في وجه حماس في عمان والقاهرة ستُفتح مقابله عشرة أبواب في طهران ودمشق والضاحية الجنوبية؟

لماذا عارضتم الانتخابات الفلسطينية مرتين على الأقل، في 2006 وفي 2021 (قبل تأجيلها)، أليس حال السلطة الفاقدة للشرعية، هو النتيجة المرة لإلغاء الانتخابات وعدم القبول بنتائجها، بل والرغبة في ضمان هذه النتائج مقدماً وسلفاً ... لماذا نخشى حماس، وقد كان مكتبها السياسي في عمان قبل العام 1999، حتى وهي في ذروة تصديها بالعمليات الانتحارية لمسار أوسلو في أواسط التسعينات، لماذا قبلنا بها بالأمس وهي في ذروة تشددها و"عنفها" ونرفضها اليوم وهي تتجه إلى مزيد من الاعتدال وتضمن التهدئة في غزة، وتسعى أن تكون جزءاً من النظام السياسي الفلسطيني، بصرف النظر عن صحة هذا الموقف من خطئه، وبمعزل عن مدى الاتفاق والاختلاف مع هذه الحركة.

"الواقعي":

لدينا ما يكفينا من مشاكل وتحديات، تكاد تمس بأمننا الوطني، الاقتصاد "كعب أخيل" الأمن والاستقرار الأردنيين، والتهدئة شرط لازم لإتمام مشاريع التكامل الاقتصادي الإقليمي (الإبراهيمي من دون مواربة)، وعلينا أن نقلب آخر حجر، بحثاً عن مخارج و"حلحلة" لهذا الاستعصاء، علينا أن نفكر أردنياً، فـ"الأردن أولاً"

الشعبوي":

ليكن، وافعلوا ما شئتم، وضعوا الأمور في نصابها ... إذ حتى بفرض صحة هذه الأطروحة أردنياً (وهي ليست كذلك)، فهي غير صحيحة، بل وخطيرة فلسطينياً ... لا حاجة بنا للإصرار على إلحاق الفلسطينيين بركب هذا "التكامل المريب"، حتى وإن كنّا نعرف أن ضائقتهم الاقتصادية، ربما تكون سبباً في حفز مقاومتهم، مع أنها لم تكن، ولن تكون، سبباً رئيساً في هبّاتهم وانتفاضاتهم، ونحن ننتقص من كرامتهم الوطنية، إذ نعزو مقاومتهم لفقرهم وبطالتهم.

ثم، دعونا لا نبالغ في تقدير ثمار "التكامل"، فهل نسيتم أن كل ما عرض علينا زمن "صفقة القرن"، وفي قمة المنامة، لم يزد عن سبعة مليارات دولار، على عشر سنوات، نصفها قروض ميسرة، وثلثها مساعدات، وبالباقي استثمارات خاصة، نظير القبول بصفعة العصر، وتوطين ملايين اللاجئين على أرضنا، ما الذي تنتظرونه حقاً من مشاريع الرفاه الاقتصادي؟

ثم ماذا عن "الأفق السياسي"، أليس التفكير ببعض المنافع الاقتصادية نظير التهدئة، هو أفضل خدمة لمشروع الاستيطان الزاحف غير المكلف، وهل تريد إسرائيل أكثر من "التهدئة غير المشروطة بوقف الاستيطان"، لإتمام مشروعها "بين النهر والبحر في دولة "الحق الحصري لليهود في تقرير المصير" .... ما الذي سيتبقى من حل الدولتين، أم أنكم عزمتم الأمر (عن وعي أو بدونه) على القبول بمخرجات الحل الإسرائيلي، كأن يعلن عن قيام كيان فلسطيني بأغلبية سكانية (3 ملايين على الأقل) على أقل من نصف مساحة الضفة الغربية، وبعدها نصبح عرضة لـ"صفقة القرن 2" تستهدف هذه المرة القذف بالديموغرافيا الفلسطينية إلى الأردن، في "ترانسفير سياسي"، كيان ليس له من الصلاحيات سوى جمع القمامة وإصدار جواز سفر "ترانسفير قانوني"، ثم نجد أنفسها على سكة "الدولة الواحدة" ولكن بين الأردن وبقايا الضفة هذه المرة، وعلى حساب الأردنيين والفلسطينيين في آن؟ ... أليس هذا ما يستوجب التفكير والتحسب قولاً وفعلاً، أليس من وظيفة الدولة التفكير على المدى المتوسط والبعيد، بدل التفكير قصير النظر، الذي لا يرى أبعد من أرنبة أنفه كما تقترحون...وحين تكون مصائر الأوطان والكيانات والهويات الوطنية، عرضة للتهديد، فهل يصلح معها منطق "تاجر التجزئة" الذي يكتفي كل مساء، بإحصاء قائمة مبيعاته وأرباحه لذاك اليوم، تاركاً أمر الغد وما بعده، إلى علّام الغيوب؟