السؤال: كيف نبني الدولة ونحافظ عليها؟

كتب: حسين الرّواشدة

بدلا من أن ننشغل بفزّاعة الدولة الوظيفية، أو الوطن البديل، أو الأردن "السمين"، ثم نتبادل المظلوميات والاتهامات، باسم الديموغرافيا، أو الجغرافيا، أو التباسات الدين والسياسة والمعارضة، يجب أن نسأل أنفسنا: ما الذي قدمناه لبناء الدولة، وتعظيم مؤسساتها، وتعزيز قيمها ومبادئها التي تأسست عليها، والحفاظ على إنجازاتها، وترسيخ الحسّ الوطني الأصيل لدى الأردنيين؟

سيفاجئنا هذا السؤال إذا صارحنا أنفسنا بالإجابة عليه، بعيدا عن المجاملات والانطباعات العابرة، وإذا ما تذكرنا، أيضا، ما قدمه آباؤنا وأجدادنا، بالدماء والتضحيات والتعب والصبر، من أجل الأردن العزيز، وسنكتشف بأننا في دوامة الاشتباكات والسجالات التي انتهت بنا للمزيد من الانقسام، وتبادل الاتهامات والمخاوف، ضيعنا فرصة مواصلة البناء: بناء الإنسان الأردني، والمجتمع والدولة الحديثة، ووقفنا على الشرفة - متفرجين- نطارد، بسيوف خشبية، أوهام البدائل المتوقعة، والسيناريوهات المصدرة، وقصص التاريخ وما قاله الأموات،  والأحلام المريضة التي حولت حياتنا إلى كوابيس، ثم نستغرق باليأس والعجز، نلوم بعضنا بعضا، ونجتر أخطاءنا، كأننا إخوة أعداء، أو مستأجرون، أو سياح عابرون.

كان يمكن، بالطبع، أن نتذكر بأن الأوطان لا يمكن أن تستبدل، ولا أن تُوظّف أو تُجيّر لأي حساب، يُكتب تاريخها بالدم والتعب والكرامة والكبرياء، ولا يُكتب بالزيف والكذب والافتراء، فلا أحد يرضى بالبدائل حتى وإن كانت من ذهب، ولا يمكن للأوطان أيضا أن تتنازل عن هويتها أو مشروعها الذي تأسست عليه، إلا إذا استغرق أبناؤها في سباتهم ويأسهم، وقرروا شطب ذاكرتهم، والعربي لا يمكن أن يفعل ذلك، لأن التراب الذي جبلت به شخصيته- مهما شدته نوازع السقوط- يمنعه من اقتراف هذه الجريمة.

إذا، الخوف ليس من الوطن البديل، ولا من الوظيفة التي يريدها البعض لنا، ولا من التاريخ المزور الذي لا يروي إلا ما يخدم مصالح رواته، فبلادنا تعرضت أكثر من غيرها لموجات من اللجوء والهجرة، وتاريخنا الذي كتبناه والذي لم نكتبه معروف تماما، فنحن أصحاب مشروع عمرة آلاف السنين، من بلدنا خرجت العروبة، ومنه انتشرت الفتوحات، وعلى أرضه قامت الحضارات، ووظيفتنا بناء هذا البلد وإدامة الخير فيه، والحفاظ على المشروع الذي قام على أساسه (مشروع بناء الدولة الأردنية الحديثة)، ولنا قضية أردنية يجب أن تكون هي أولويتنا، إذا اتفقنا على ذلك، يصبح ترتيب أولويتنا الأخرى ممكنا وسهلا، ولنا عدو واحد نعرفه، اغتصب أرضنا، وما يزال، ولا يجوز أن نورث أجيالنا القادمة غير ذلك.

هل تأخرنا عن حسم إشكالية السؤال الذي يحيرنا: من هو الأردني حقا؟ ربما، لكن من المفارقات أن سؤال الهوية هذا الذي تصورنا أن غيرنا قد حسمه عاد مرة أخرى إلى السطح في مرحلة نهضة الشعوب نحو استعادة الاعتبار إليها، وكأن المطلوب من أمتنا اليوم أن تعيد تعريف هويتها على أسس جديدة لا علاقة لها بالدين والحضارة، واللغة والدم، التي هي المقومات الأساسية للأمة التي كانت ذات تاريخ، لا تغيب عنها الشمس.

لنتذكر دوما، في بلادنا انتصرت المصاهرات الاجتماعية على المصاهرات السياسية، واندمج الجميع تحت الإحساس بالخطر والدفاع عن الوجود في بوتقة (الوطنية) التي تعني الالتصاق بالتراب المبارك الذي طهره الأنبياء الذين مروا من هنا، والفاتحون الذين ما تزال مقاماتهم تذكرنا بقيمة الشهادة، والتضحية والإخلاص، للرسالة.

لكننا للأسف في زحمة الدعوات إلى المحاصصة وتقسيم التركات نسينا أن لدينا رسالة أهم من الصراع على مناصب السياسة، ولدينا مشروع إنساني وأخلاقي ووطني يحتاج بناؤه إلى التوحد والتوافق، لا إلى التراشق والتشتت، ولدى عدونا نوايا مبيتة وخطط جاهزة لإغراقنا في دوامة الجدل والحيرة، فالمطلوب ليس فلسطين فقط، وإنما العروبة والإسلام، سواء تشكلت في أوطان أو في مشاريع وأفكار.

لا بد اليوم أن نصارح أنفسنا: من هو الأردني ومن هو الوطني، وما هي الوطنية التي نريدها، من هو المواطن الجيد ومن هو الإنسان القادر على ترجمة هذه القيم والمفاهيم بعيدا عن الألوان والأجناس والاختلاف في الأفكار والأديان والمذاهب السياسية.

هذه بالطبع مشكلة النخب، فالناس الذي اجتمعوا على مصاهرات النسب، وتوحدوا على مبادئ الخؤولة والعمومة لا تشغلهم مثل هذه التقسيمات والاستقواءات، وهي أيضا مشكلتنا مع السياسة التي ما تزال غارقة في لغة الاستبعاد والإقصاء، ومشكلتنا أيضا في تقديم  منطق الهدم على منطق البناء، واستسهال الكلام على حساب العمل.

ما لم نخرج من هذه العطالة السياسية التي أورثتنا ما نعانيه من انسدادات وأزمات فإن أوهاما كثيرة ستبقى تطاردنا، ليس فقط (وهم الوطن البديل والدولة الوظيفية)، وإنما أيضا أوهام العدالة والديمقراطية التي ما تزال تشكل طموحات الأغلبية في المجتمع فيما هي لدى البعض مجرد إحساس مفزع بسبب اعتقادهم بأنها ستجردهم من امتيازاتهم، أو تكشف أخطاءهم، أو تطردهم خارج الحلبة.

باختصار، لا يمكن أن نتعافى من الأوهام التي تطاردنا أو أن نواجه الأخطار الحقيقية التي تحدق بنا- وما أكثرها- إلا إذا انحزنا لمشروع الوطن الواحد، وطن العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص للجميع، وتوافقنا على أساس المواطنة العادلة التي تستوعب الجميع في إطار الإنتاج والإخلاص والانتماء الصادق غير المغشوش .

هذه كلها تحتاج إلى مجتمع تتقدم فيه الأفكار على الأشخاص، والقيم والممارسات على المصالح الذاتية والتوظيفات المسمومة، وإلى دولة ديمقراطية حديثة تحترم قيمة الإنسان وحقوقه، عندها، فقط، يصبح السؤال عن بناء الدولة والوطن الأصيل الذي يكفل لكل من يعيش فيه ما يحتاجه من مستلزمات الكرامة والعيش الكريم هو السؤال الحقيقي، ويبدو الكلام عن البديل- أي بديل- أو الوظيفة- أي وظيفة- صوتا ناشزا لا يلتفت إليه أحد.