في البدء كانت العدالة الاجتماعية
عندما نتحدث عن الاستثمار في الصحة فإن الأمر يختلط على الكثيرين وحتى على بعض المختصين وصانعي القرار الذين يخلطون بين الرعاية الصحية والصحة بمفهومها الأشمل.
يورد الكاتب الإنجليزي المعروف (مايكل مارموت) في كتابه “ الفجوة الصحية “ مثالا صارخا من مدينة غلاسكو الاسكتلندية حول الدور المحوري الذي يلعبه غياب العدالة الاجتماعية، وتأثيره على صحة المواطن؛ فسكان منطقة كالتون التي تعاني من الفقر والبطالة وتنتشر في شوارعها وأزقتها أعداد كبيرة من المتشردين والبغايا وتجار المخدرات؛ هذه البيئة قد تكون مثالية لتشكل أحد الأسباب المؤدية لانتشار الأمراض السارية وغير السارية وحدوث الوفاة المبكرة والتي تعتبر حدثا عاديا عند سكان هذه المنطقة، حيث يبلغ متوسط عمر قاطني هذه المنطقة (54) عاماً وفقاً لإحصائيات عام (2000)، مقارنة بـ (82) عاماً لدى أقرانهم في منطقة ليزلي الثرية، والتي لا تبعد عن كالتون سوى بضع كيلومترات، ويورد الكاتب أنه حتى وان طرأ بعض التحسن على متوسط أعمار قاطني كالتون في السنوات الأخيرة فان الفجوة ما زالت كبيرة.
تُرى ما الذي أدى إلى هذا التباين الشاسع في متوسط العمر المتوقع بين سكان منطقتين متجاورتين جغرافياً ويقطنهما أناس من العرق ذاته، وتنتميان إلى نفس الدولة؟ حقيقة فإن غلاسكو لا تمثل استثناء في الفجوة الهائلة في مؤشرات الصحة ليس بين الأغنياء والفقراء فحسب وانما بين طبقات المجتمع المختلفة، فهذه الفجوة قائمة في معظم دول العالم غنيها وفقيرها، فها هي الولايات المتحدة، الدولة الأغنى والأكثر تطوراً والأكثر انفاقا على الرعاية الصحية والتي تستأثر الأخيرة بحوالي (17 %) من اجمالي الناتج المحلي تحتل مركزاً متأخراً جداً على سلم مؤشرات الصحة، مقارنة بالدول الاسكندنافية والتي ورغم انفاقها المتواضع نسبيا على الرعاية الصحية الا أنها تمتاز بمؤشرات صحية مميزة.
فإذا ما كان هذا حال الدول الغنية والمتقدمة فالصورة في الدول الفقيرة والنامية والتي ابتليت بمتلازمة الفقر والفساد وغياب العدالة أشد قتامة وبؤساً، فلم يعد مقبولاً على سبيل المثال ونحن في القرن الواحد والعشرين ألا تتجاوز نسبة شفاء الأطفال من مرض السرطان في الدول الفقيرة الـ(20 %) بينما يشفى (80 %) من أقرانهم في الدول الغنية، وما ينطبق على سرطان الأطفال ينطبق على كافة مناحي الصحة.
يميل دعاة النيو ليبرالية إلى إلقاء اللوم على الإنسان فيما يتعلق بصحته بصفته صانع مصيره؛ ليصرفوا النظر عن قضية غياب العدالة الاجتماعية بوصفها الأساس لكل علة، وبالتالي كانت كل الحلول التي تحاول أن تحسن من خلالها المؤشرات الصحية بمعزل عن قضية العدالة قاصرة.
ولا شك أن ربط مفهوم العدالة الاجتماعية بمهارة الشخص وادائه ليس منصفا، وبالرغم من ان هذا المفهوم ما يزال يشغل حيزا جدليا عظيماً على جميع المستويات، إلا أنه حق إنساني لكل البشر اغنياء او فقراء بغض النظر عن العرق أو الطبقة الاجتماعية أو المساحة الجغرافية.
لقد كشفت جائحة كوفيد 19 عن التبعات التي تترتب على غياب العدالة في مختلف دول العالم، وترجم هذا من خلال ملايين الوفيات التي كان يمكن تجنبها وفي زيادة الأضرارالنفسية والجسدية، وكان سبباً في عدم المساواة في تقديم الرعاية الصحية وتوزيع اللقاحات.
واليوم الدول مدعوة أكثر من أي وقت مضى لمراجعة شاملة لممارساتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية من أجل ضمان تحقيق العدالة في الرعاية الصحية والعدالة الاجتماعية بين المواطنين وعلى وجه الخصوص منحهم حقوقهم الأساسية في الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، وإلا فإننا سنجد أنفسنا ازاء مجتمعات مُنفصمة تعيش داخل حدود الدولة الواحدة، تسودها مشاعر الإحباط والظلم وغياب العدالة بمختلف مفاهيمها ومستوياتها وبالتالي ستشعر بانعدام الثقة تجاه الدولة ومؤسساتها وتفقد انتمائها للوطن. حري بنا أن نسعى لخلق الظروف المواتية التي من شأنها أن توفر للجميع العدالة الاجتماعية وخاصة المجتمعات الأشد فقراً وضعفاً.