الملك.. النذر متجدداً للأردن والعرب
نجتاز مع الملك عبد الله الثاني عاماً جديداً من حياته التي نذرت للأردن منذ يوم ولادته عندما حمله الراحل الحسين بن طلال مبشراً الأردنيين بقدومه ليعلق عليه آمالاً عظيمة بقيت سراً في صدر الملك الحسين لأكثر من ثلاثين عاماً، ويتمكن من وضعها أمامه قبل فترة وجيزة من وفاته التي اعتبرت في تزامنها على مشارف بداية القرن الجديد بمثابة الإيذان بنهاية القرن العشرين العاصف، والذي شهد تأسيس المملكة الأردنية الهاشمية، ومسيرة الصمود والبناء التي خاضها الملك الحسين ومن ورائه الأردنيون جميعاً في قصة ستبقى من الفصول العربية المشرقة في القرن الماضي بأسره.
لم يكن الأردن في أفضل أحواله مع وفاة الملك الحسين، الظروف المحلية كانت ما زالت تتفاعل بالنتائج الصعبة التي عبرت عن نفسها في أزمة اقتصادية طاحنة أتبعتها أحداث دشنت حقبة سياسية جديدة سنة 1989، والعلاقات العربية كانت في ظل تأثير مناخات ما بعد حرب الخليج الثانية، ومسيرة السلام بدأت تواجه المصاعب بعد التغول اليميني في إسرائيل.
سرت مشاعر القلق في الدول العربية بعد رحيل الحسين، فالأردن يبقى بلداً مركزياً يمتلك وزناً سياسياً مؤثراً، ويؤدي دوراً مهماً في مختلف القضايا العربية، والملك الشاب الذي وقف بكل انضباط عسكري في جنازة والده لم يكن معروفاً بصورة كافية في الأوساط السياسية الإقليمية والدولية، وكان ما يعرفه الناس خارج الأردن هو مسيرة عسكرية حقيقية مع حياة شخصية وأسرية هادئة، ولكن الاختبارات لم تتأخر مطلقاً، فبعد ترتيب المشهد المحلي بصورة أكدت عمق الدولة الأردنية ورسوخ تقاليدها وذكاء الملك الشاب وثباته المعنوي، كانت أزمة كبرى تضرب العالم، وتعلن افتتاحاً مدوياً للقرن الجديد، تفجيرات نيويورك وما أتبعها من انفلات للإرهاب والعنف في المنطقة.
تصدى الملك للمشاركة في حملة واسعة من أجل الفصل بين الإسلام الذي سعى الغرب لأن يضعه خصماً جديداً مكان الشيوعية، ووقفت الأردن ضد التحريض وكان لشخصية الملك العصرية وانفتاحه على العديد من الأوساط العالمية دورها الكبير في تفويت الفرصة لتدشين حرب أرادها الأمريكيون شاملة وعلى نمط الحرب الباردة، وفي الوقت نفسه، تمكن من قيادة الأردن لتتصدى للتبعات الكارثية لقرارات الولايات المتحدة بغزو أفغانستان والعراق في فترة وجيزة، وأصبحت الأردن بلداً مرجعياً سعى من أجله الديمقراطيون القادمون مع باراك أوباما ليبدأ الملك في جولة ثانية من العلاقات الصعبة والمعقدة والحسابات الخطرة في مواجهة تواصل صعود اليمين الإسرائيلي، ليصبح الأردن الذي كان يحمل رسالة السلام يوماً، الحصن الأول وأحياناً، الأول والأخير، أمام شطط صفقة القرن الأمريكية، ويعبر الملك مرحلة صعبة من فصول السياسة الدولية وتقلباتها بالتمسك المبدئي بالحقوق العربية والفلسطينية، وتغليب المصلحة الوطنية الأردنية على أية اعتبارات أخرى.
محلياً، تمكن الملك من قيادة الأردن نحو طريق التحديث والإصلاح، فبدأ يخط الطريق من خلال أوراقه النقاشية التي مهدت من أجل مسيرة يتوازى فيها الاقتصادي الذي بقي يراوح مشكلاته منذ الأزمة المالية العالمية، مع السياسي الذي صبغته خبرة الربيع العربي، والإداري الذي يسعى لأن يوظف كل شيء إلى مكتسبات ملموسة للمواطن الأردني، كل ذلك، من غير أن يستشعر الأردنيون القلق الوجودي، ومن غير أن يتهافتوا على الأرفف الخاوية أو يتدافعوا من أجل الدواء، وهو المشهد الذي أصبح شائعاً، للأسف في دول عربية كثيرة.
أثبتت الأيام أن الملك الحسين، الحكيم والمحنك في السياسة والإدارة، كان يرى في ذلك الشاب المستقبل الذي حتمت عليه أمانته أن يتخيره للأردن، وبذلك، تحقق النذر وما زال وسيظل للأردن وللعرب. (الرأي)