تسونامي الإنترنت والبحث عن منظومة أخلاقية جديدة

 

د. محمود أبو فروة الرجبي
 
يتحدث الناس وبخوف شديد عن انهيار أخلاقي سببه منصات التواصل الاجتماعي، ويشيرون إلى ما يحصل من بث من خلال بعض الـمنصات مثل التيك توك وغيرها، وظهور بعض السلوكيات الصادمة بالنسبة للمجتمع الأردني والعربي بشكل عام. فهل هذا صحيح؟
من خلال تتبع ما يبث وينشر في منصات التواصل الاجتماعي نلاحظ كثيرا من الـمنشورات الصادمة، سواء من الناحية الأخلاقية، أو النواحي الأخرى، وبتنا نرى مثلا شخصا لا يمتلك أي مؤهل أو ثقافة، أو محتوى إيجابيا يحصل على ملايين الإعجابات، والـمشاركات، بل وصل الأمر إلى أن تتصدى فتاة – دون ذكر اسم – لحل الـمشكلات الزوجية، وتقدم حلولا لا يمكن تصنيفها الا تحت باب العبث بالحياة الزوجية للناس، ومع ذلك تجد تفاعلا هائلا، وشكرا على نصائحها، وهي أصلا تحتاج إلى من ينصحها، في الـمقابل سادت فيديوهات لفتيات عاديات يرقصن بملابس شبه عارية، أو أخريات يتحدثن عن الجنس بحرية غير معهودة، أو شباب يتلفظون بكلمات نابية، لا يقبل بها الـمجتمع، وانتشرت مثل هذه المقاطع بطريقة توحي لمن يشاهدها وكأن ما يحصل هو الواقع، والحقيقة ليست كذلك مائة بالمائة.
هناك محظورات كثيرة في أي مجتمع، وهذه المحظورات تشكل مادة خصبة لإثارة الجدل، وبتنا الآن نعيش في هوس الحصول على المشاهدات والإعجابات، وهذا دفع بكثير من صناع الـمحتوى إلى اختراع الأكاذيب، أو التعري، أو الحديث ببذاءة من أجل الحصول على تفاعل أكبر، ومن ثم الوصول إلى دخل مادي أكبر.
لم تعش البشرية في أي مرحلة تاريخية من حياتها بمثالية، والخطأ كان موجودا منذ بدء الحياة، ولا يمكن لأي مجتمع أن يكون خاليا من الأخطاء، أو الجرائم، أو الانحرافات، وما كان يحصل سابقا كان محصورا في الـمكان الذي يجري فيه، وفي حالات نادرة كانت وسائل الإعلام تركز على بعض القضايا، أو تنتشر أحداث أخرى من خلال حديث الناس عنها بشكل كبير، أو لحدوث سيل من الإشاعات حولها، والآن فإن أي حدث ولو كان بسيطا يمكن أن ينتشر، ويصبح رائجا (ترند) لأن صناع الـمحتوى يمتلكون وسائل بث ونشر ومعجبين ومتابعين في كل مكان، وليس هناك حارس بوابة أو رئيس تحرير يتحكم بما يجب نشره أو بثه من عدمه.
هذا لا يعني بطبيعة الحال أن البشرية لم تتغير، فيجب علينا الاعتراف أن هناك انقلابا كبيرا في القيم والأخلاق، وطريقة التعامل مع مختلف أمور الحياة، وهذا الأمر انعكس على العمل، وأخلاقياته، وطرق تعامل الناس مع بعضها، وقد لا تكون منصات التواصل الاجتماعي هي العامل الأوحد المؤثر على القيم، ولكنها بلا شك العنصر الأكبر، لأن تأثير الإعلام كبير، وقوي، منذ نشوء وسائل الإعلام المختلفة، وزاد هذا التأثير مع دخول منصات التواصل الاجتماعي التي أعطت الفرصة لكل إنسان أن يكون صانعا للمحتوى، وناشرا له، وكذلك أجهزة الاتصال المتنقلة التي وفرت كاميرا قادرة على التقاط كل شيء وفي كل مكان غيرت من طبيعة الـمحتوى، والتقطت مشاهد كثيرة جعلت أصحاب الفكر المنحرف، أو من يشذون عن الـمجتمع ينشرون أفكارهم بشكل أوسع، وشجعت الناس على مخالفة القيم، وقللت من القهر الاجتماعي الذي كان يشكل عامل ضبط في الـمجتمع، يجعل أفراده أكثر انضباطا في مجالات أخلاقية متعددة.
انعكست الـمرونة الاجتماعية التي تحدثنا عنها على أخلاقيات العمل أيضا، بل ووصلت إلى حد تقليل التأثير العلمي، وإنتاجه، ووصل الأمر إلى أن الابتكارات، والاختراعات تراجعت في السنوات الأخيرة، وهناك من يتحدث عن ظاهرة عالمية أثرت على جودة الأبحاث العلمية، إذ إن السعي وراء الترقيات العلمية، والحصول على مكاسب سريعة، جعلت الأبحاث العلمية في العالم كله أقل جودة، وابتكارية، وعمق، وهذا له تأثير كبير على البشرية التي حققت في العقود السابقة إنجازات غير مسبوفة في مجالات متعددة خاصة في الصحة، وفي مجالات سهلت حياة الناس.
في الخلاصة: الناس تغيرت، والـمحتوى الرقمي أصبح جزءا أساسيا من حياة الناس، والأخطاء والشذوذ في التصرفات كان محصورا في أماكن معينة، أو بين عدد معين من الناس، ولكنه الآن أصبح مكشوفا للجميع، ويمكن لشخص جالس في منـزله في أحد أحياء مدينة الزرقاء أن يشاهد فتاة تشد شعر أخرى في نيويورك في الولايات المتحدة الأميركية، وقد ينتشر هذا المقطع ويجد تفاعلا – غير مبرر- ويصل إلى عدد من البشر أكثر من المعارك الدائرة بين روسيا وكرواتيا، وفي أحيان أخرى يخرج شخص ويعلق على أمر بطريقة بعيدة عن المنطق والعلم، فيتفاعل الناس معه من كل مكان، ويصبح ما يقوله مرجعا وحقيقة رغم أنه لا علاقة له بأي علم.
لدينا تحد كبير يجب أن نفكر به جميعا، وهي أننا نعيش في مرحلة مخاض عالمي غير كل شيء، ولا بد لنا من إعادة بناء منظومة قيمية قادرة على الصمود في وجه هذه التغيرات، لن نكون ضد التغيير، وسيرورة التاريخ وصيرورته التي تجعل من التغيير الثابت الوحيد في الحياة، ولكن في خضم فيضان البث والنشر الرقمي الذي نعيش فيه نحتاج إلى أرض صلبة من الأخلاق نتمكن من خلالها من العيش بسلام وأمان معا، وأن يعرف كل إنسان حدوده، وأن يلتزم بالقيم الإيجابية، والقوانين، وألا يتعدى على غيره، فقد أصبح المربي الأول في الـمجتمع هو الإنترنت، وبتنا نتحسر على أيام كان فيها الشارع هو المساهم في تربية الأطفال مثلا.
البشرية قد تكون قادرة على التأقلم مع تسونامي الإنترنت، ولكنها تحتاج إلى وقت أطول من الـمعتاد من أجل هذا التأقلم، وما يهمنا جميعا في بلدنا الغالي الأردن، ووطننا العربي الكبير العزيز هو أن نستجيب بسرعة أكبر للتغيرات، وأن نساهم مع البشرية في بناء نموذج أخلاقي وحضاري جديد يؤثر في الناس إيجابيا في ظل ما نراه من تغيرات صادمة أمامنا.
والأيام القادمة حبلى بالـمزيد من الصدمات.