لماذا لا نعرف كيف نغضب؟
د. محمود أبو فروة الرَّجَبِي
قد يكون عنوان هذا الـمقال غريبًا، ولكن هذه هي الحقيقة، فكما يجب أن نتعلم كيف نتعامل مع الناس، وكيف ندير أنفسنا، وما الخطوات التي يجب القيام بها من أجل تحقيق هدف ما، فلا بد من أن نعرف كيف نغضب، ومتى نفعل ذلك؟ وكيف نعبر عنه.
إشكاليتنا الكبرى في الأردن، وفي وطننا العربي الكبير أننا لا نستطيع ضبط أنفسنا في هذه المسألة المهمة، فأحيانا نغضب لأشياء لا تستحق ذلك، وإن كان هذا الأمر يتوجب الغضب، فإن طريقة تعبيرنا عن الغضب تكون سيئة وقد تؤدي إلى نتائج كارثية.
ذات مرة وعندما كنت مع صديق لي في أحد شوارع بريمن في ألمانيا، ونزلت لأشتري شيئًا، عدت لصديقي في سيارته، وكانت سيدة ألمانية غاضبة تتحدث معه، وعرفت أن سبب غضبها إبقاءالسيارة مشغلة وهي واقفة، وهذا يؤدي إلى تلويث
الجو، ويعاكس الاتجاه العام في ألمانيا الداعي إلى تقليل الانبعاثات التي تؤثر على البيئة، قارنت بين هذا الغضب الذي لم يخرج عن حدود الأدب، وتقديم النصح، والإرشاد في مسألة يجب أن يعمل الجميع من أجلها، وكيف يمكن لسيدة أن تمتلك كل
هذا الحس الوطني، والحب الذي يدعوها إلى الغضب من أجل البيئة، وقارنت الأمر مع ما يحصل في بلادنا العزيزة الممتدة من الـمحيط إلى الخليج، حيث يمكن أن يغضب الشخص لشيء أصابه شخصيًا ويثور، بينما قد لا يهتم لأمر عام، وكأن الشيء لا يخصه.
من الـمهم أن نزرع في أطفالنا الانتماء، والأهم أن نعلمهم كيفية التعبير عن الانتماء، وتحويل هذا الأمر إلى خطوات عملية تفيد الصالح العام، والغضب في مكانه الصحيح هو جزء من هذا الانتماء، فمن يغضب لأن أحدهم يرمي القمامة في الشارع
هو إنسان وطني، ومن يغضب عندما يرى موظفًا في دائرة حكومية يضيع وقته في لا شيء بدل خدمة المواطنين، هو إنسان منتم، ومن يغضب على نفسه لأنه لم يدفع الضريبة ذات يوم، وقصر في حق وطنه فهذا إنسان يغضب في الـمكان الصحيح.
نعرف في عالمنا العربي أن هناك تجارب شعبية مع الفساد، وعدم المساواة، وإهدار الـمال العام، ولكن.. هل هذا يعطي مبررًا لي كي لا أغضب من أجل وطني؟ كل إنسان في الحياة يتعرض للظلم، وهذا الظلم مثل النار، فهل يمكن إطفاء النار
بالنار؟ أم بردود الفعل الحضارية القائمة على التفكير المنطقي والتي تؤدي إلى الحل.
الـمطلوب منا جميعًا في الأردن، وفي عالمنا العربي أن نشيع الأجواء الإيجابية، وأن يعمل كل من مكانه على الإصلاح، ومفهوم الإصلاح لا يشمل الدولة، والأجهزة الحكومية فقط، وهذا مطلوب، بل أن يفعل ذلك كل إنسان، فأنا عندما أحرك كل
معارفي من أجل الحصول على وظيفة، وأنا لا أستحقها فأنا مجرم بحق وطني، فكم من مؤسسة حكومية خسرت بسبب وجود شخص غير مناسب على رأسها أدارها لمصالحه، وعين فيها أقرباءه دون وجه حق، وفجأةً وجدها تنهار، ثم يتحول بعد
خروجه منها إلى الدعوة للوطنية، ومحاربة الفساد، وهو في نفسه أكبر فاسد، وساهم في تنمية الفساد ونشره!
وشخص آخر يعامل الناس بناء على أصولهم، وألوان بشرتهم، ولا ينظر إلى الوطن إلا من ثقب مصلحته، ثم يتشدق بحبه للوطن، لنكتشف لاحقًا أن سبب غضبه هو أنه لم يحصل على حق يعتقد أنه له، وقد لا يكون، ثم ينسى أن هناك فرقًا كبيرًا بينه
وبين الوطن.
عندما نعرف حقوقنا ونتوقف عند حدودها، ونعرف واجباتنا ونقوم بها، ونبرمج أنفسنا لنغضب في الـمكان، للسبب الصحيح، تتغير أشياء كثيرة في الحياة، فإذا عدنا لقصة السيدة الألمانية التي تحدثت عنها في بداية الـمقال، عرفت أن الغضب
الشعبي على قضايا معينة يجعلها غير موجودة، أو محصورة في نظاق ضيق، فتخيلوا لو كنا شعبيًا نغضب على من يأخذ حق غيره، ونقوم فرادى بمحاربته، بدلًا من تشجيعه، وعدم الجرأة حتى بإظهار الغضب أمامه، فماذا يحصل؟
ماذا سيجري في مدارسنا وجامعاتنا، لو تعلم الأطفال والشباب أن الغش جريمة، وغضبوا من أجله؟ فهل سيبقى الغش فيها؟ لو كنا نمتلك الجرأة لنخبر كل شخص يقوم بعمل سيئ ومخالف للقانون، بأنه مخطئ، بدلًا من تشجيعه، والتصفيق له فماذا
سيحصل في مجتمعنا لاحقًا.
الغضب مطلوب في مكانه إذا تم التعبير عنه بطريقة حضارية، أما الصراخ، والشتائم، واستخدام العنف، فهو لا يدل على حضارة، ورقي أبدا. عندما نعرف على ماذا نغضب، ومتى وكيف نفعل ذلك؟ وقتها يمكن الحديث عن بداية تطور نحتاجه في
ظل الظروف التي نعيشها في العالم كله.