الغضب المدفون
د. منذر الحوارات
في الماضي عندما كانت الجدات ينتهين من عمل الخبز كُنَ يدفن النار بما يعرف بالصفة (وهي رماد ينتج عن بقايا الحطب) بحيث تبدو وكأنها غير موجودة فهي تختفي تحت كومة من الرماد وذلك لاستخدامها لاحقاً في مهام أخرى مثل الطبخ وغير
ذلك وكان من الممكن أن يسقط أحد الأولاد في هذه النار المختبئة ويصاب بأذى بليغ لكن في العادة يعرف الجميع مكانها ويتجنبونها وفي آخر النهار عندما تنتفي الحاجة لها يقمن بصب الماء عليها ويتأكدن أنها انطفأت تماماً وذلك خوفاً من أن تأتي
الرياح في اليل وتنشرها في أرجاء بيت الشعر أو إلى البيدر أو أي شيء قابل للاحتراق، إذاً في الماضي كانوا يستخدمون النار لكنهم يخشونها لأنها إن أفلتت وغادرت مكانها فإنها لا تبقي ولا تذر.
خلال الأسبوعين الأخيرين كانت النيران رفيقة عدد كبير من الشوارع في أكثر من محافظة ومدينة فعلى ناصيات الشوارع في كل ليلة يتجمع العديد من الشبان الغاضبين ويحرقون الإطارات وربما يغلقون الشوارع بحيث بات هذا المنظر مألوفاً بل
وتطورت الأمور في أحيان كثيرة إلى مواجهات محدودة في منظر لم يألفه الأردنيون كثيراً كل هذا كان تحت عنوان التضامن مع إضراب سائقي الشاحنات، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هل ما حصل ويحصل هو مجرد تضامن أم أنه غضب وجد
في الإضراب فرصة سانحة ليطلق العنان لنفسه؟ والأغلب أنه كذلك بل وكانت الأمور تتسارع باتجاه احتمالات بغيضة لكن ذكاء الأردني والذي يستطيع أن يلتقط اللحظات الفارقة بعبقرية قل نظيرها ففي اللحظة التي سالت فيها أول قطرة دم من
الشهيد عبدالرزاق الدلابيح أدرك كل المحتجين أن هذه القطرة يجب أن تكون الماء الذي يطفئ هذه النيران المشتعلة في الشوارع وفي النفوس فلدى الأردنيين حساسية بالغة تجاه مستقبل بلدهم وهم يدركون أن بقاءه مرهون باستقراره وأمنه وبغض
النظر عن حجم الغضب الذي يعتمل في نفوسهم فهم قادرون على كظمه في لحظات.
لكن ما لا يجب أن نفوت قراءته في هذه الأحداث أن المواطن العادي في واد وصناع القرار السياسي والاقتصادي في وادٍ آخر فلو كانت الصلة حميمة أو كان التواصل عامراً لوجدنا أن ما كانت تتحدث عنه الحكومة خلال عامين من إصلاح
سياسي واقتصادي وإداري قد ترك أثراً عند الناس لكنه أبدا لم يترك ذلك الأثر فالناس بعيدون كل البعد عن كل ما قالته الحكومة والتي يفترض أنها حاورتهم وناقشتهم واستمعت إلى آرائهم وكأنها كانت تحاور ذاتها وتناقش نفسها وتصدر قراراتها
لأجلها لا لأجل هؤلاء. إذًا كان الكلام غير ذلك فأين ذهبت مخرجات عامين من النقاش؟ لا شك أنها ذهبت أدراج الرياح فلدى الناس قناعات راسخة بأن هناك عقلا في الدولة من يريد أن يفكك التركيبات المجتمعية القديمة ليحل محلها تركيبات جديدة
تخدم فئة محدودة يصبح بموجبها هؤلاء غرباء معزولين ومعدومي الحيلة لذلك أخذت الاحتجاجات عناوين تشير إلى ذلك بمنتهى الوضوح.
إذاً رغم تراكم الفقر والأزمة الاقتصادية وأزمة الشاحنات والإضراب إلا أن الغضب في جزئه الأهم سياسي اتخذ شكلاً مطلبياً وليس العكس ابداً وهو يجب أن يحل على هذا الأساس وهذا لن يتم إلا إذا أعادت هيئات الدولة المختلفة تواصلها الحقيقي
مع فئات المجتمع بمختلف تدرجاته وأقامت حواراً حقيقياً يصدر قراراته استناداً إلى تلك النقاشات التي يجب أن تتم بعقلية منفتحة على كل الآراء والتوجهات بعيداً عن المواقف المسبقة، أما من يريدون الاستمرار بالقياس على الماضي وأن هذه
موجات جربناها وستنتهي فهؤلاء لا يرون أبعد من أقدامهم وهم سبب البلاء وإذا استمعنا إليهم ستبقى الأمور على ما هي عليه وسيبقى الغضب مدفوناً وجاهزاً لإشعال النار في كل لحظة، في حينها يمكن إطفاء نيران إطارات الشوارع لكن نيران
النفوس من سيطفئها؟