عائدٌ من بغداد ..

على مدار خمسة أيام، كنتُ على تماسٍّ مباشر مع السياسات العراقية، سواء من خلال الجلسات المتتالية المهمة في ملتقى الرافدين (ينظّمه مركز الرافدين للدراسات، ويستضيف النخب السياسية العراقية ومثقفين وسياسيين عرباً وإيرانيين)، أم على صعيد اللقاءات والحوارات في الخارج مع مثقفين وسياسيين وناشطين وأصدقاء عراقيين، أم على مستوى المتابعة الشخصية الحيّة لتطورات المشهد العراقي ووسائل الإعلام.

بالضرورة، لن تستوعب هذه الزاوية القصيرة كمّاً كبيراً من الملاحظات والأفكار؛ فما يحدث معقّد على الصعد، السياسي والثقافي والفكري أيضاً، وسترى هذه الزاوية النور بعد أن يكون قد ظهر الدخان الأبيض، وتبيّنت نتائج الاحتجاجات المتوقعة يوم السبت (أمس) في ذكرى انطلاقة تشرين، إذ يؤكد الجميع أنّ "التيار" (الصدري) سيكون موجودا فيها بقوة في مواجهة التطورات التي أعقبت استقالة نوابه وتجديد الثقة برئيس مجلس النواب الحالي محمد الحلبوسي.

الأزمة المتدحرجة في العراق منذ عقود تأخذ اليوم صيغة مختلفة ومغايرة، وتتمثّل بحالة الصراع والاستقطاب داخل "البيت الشيعي" بين "التيار" والإطار التنسيقي. وهذا الصراع، وإن كان ممتدّاً منذ أعوام سابقة بصور وأشكال مخنلفة، إلاّ أنّه أصبح متجذّراً اليوم إلى درجةٍ كبيرة، ويحكم المعادلة السياسية والأمنية، ويشكل حالة استقطاب شديدة.

يصرّ القادة العراقيون من القوى الشيعية على أنّه لا يقتصر على "البيت الشيعي" بآثاره ونتائجه، وهذا صحيح، لأنّ الدولة كلّها تقع تحت طائلته، إلاّ أنّه، في جوهره، صراع داخل البيت، وهنالك فرضيتان رئيسيتان مهمتان في الأوساط العامة؛ الأولى أنّه صيرورة طبيعية وخلاف سيؤول إلى تطوير المعادلة السياسية العراقية، بالرغم من الآلام الراهنة، وينتهي إلى تشكّل ائتلافين رئيسيين (وهو ما يسعى قادة في "الإطار" إلى ترسيخه قانونياً خلال الفترة المقبلة؛ من خلال تعديل النصوص الدستورية والقانونية)، الأول يمارس الحكم والثاني المعارضة، وبالتالي، تدور العجلة الديمقراطية مع احتكام الجميع لصناديق الاقتراع. أمّا الفرضية الثانية فترى أنّ الأمور وصلت هذه المرّة إلى مرحلة لن يكون الجميع كاسباً فيها في النهاية، بل "كسر عظم"، وتتمثل في الصدام مع "التيار" الذي يصرّ دوماً على كسر قواعد اللعبة، وقد وصلت الأمور قبل أسايبع إلى "حافّة الهاوية" والاشتباك المسلّح، قبل أن يأمر الصدر أتباعه بالعودة إلى منازلهم فوراً.

ماذا عن "التشرينيين"، كما يُطلق عليهم العراقيون؟ وهم من أشعلوا الاحتجاجات الشعبية، ذات الغالبية الشيعية، ويستمرّون منذ أعوام كطرف جديد في اللعبة السياسية، يمثّل جيل الشباب واليسار والعلمانيين والمثقفين؟

الجواب لدى الغالبية أنّنا لا نتحدّث عن كتلة صمّاء واحدة، ولا حتى عن قاعدة اجتماعية متشابهة، من الناحية السوسيولوجية، بل هم مجاميع من الشباب والمثقفين والمحتجّين على الأوضاع السياسية، يتقفون على حالة الغضب الراهنة من النخبة السياسية؛ لكنهم يختلفون بصورةٍ ملحوظةٍ وكبيرة في ما يريدون، وفي الموقف من التطورات الراهنة، فهنالك من اندمج في مجلس النواب العراقي وشكّل أحزاباً سياسية، مثل حركة امتداد والبيت العراقي ومستقلين من النواب، وهنالك من أصرّ على البقاء خارج اللعبة السياسية.

يتميّز السلوك السنّي بعد "داعش" بدرجة أكبر من البراغماتية والانقسام بين مؤيدي الإطار التنسيقي والتيار الصدري، وإن كانت الغالبية من السنّة هم مع رئيس مجلس النواب الحالي، فيما تتموضع مجموعة من المؤثرين ورجال الأعمال مع "الإطار"، ولكن على العموم، تحوّل الرهان السياسي السني بصورة ملحوظة بعد "داعش" نحو التكيّف مع النظام الجديد، والاهتمام أكثر بالمصالح السياسية والاقتصادية، سواء على الصعيد المجتمعي أو حتى الفردي.

الموقف من إيران مسألة جدلية. ولكن من الواضح شعبياً أنّ هنالك حساسية شديدة في أوساط المجتمع المدني والشباب وتيارات شيعية عديدة اليوم تجاه النفوذ الإيراني، وقد التقى عمّار الحكيم قبل فترة قصيرة بولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وحمل رسائل من "الإطار" أولاً، كما أخبرني، كانت إيجابية للغاية، ومن الأخير إلى "الإطار" وكانت إيجابية أيضاً.

من الضروري اليوم، عربياً، تحرير السياسات العربية، أولاً، من المنظور الطائفي في العلاقة مع العراق، على الصعيدين الرسمي والشعبي، وثانياً التخلص من الصورة النمطية التي تربط القوى الشيعية بإيران، فهنالك مياه كثيرة تحرّكت تحت الأقدام خلال الأعوام الماضية.