من يلد الحزب السياسي؛ الدولة، أم المجتمع، أم الطبقة الاجتماعية!

د. عبدالحكيم الحسبان

يبدو المشهد الأردني وخصوصا على صعيد الدولة والنخب المرتبطة بها، وقد ازدحم بالكثير من الحراك والنشاط والمبادرات التي تتعلق بالحياة الحزبية وتحديدا على صعيد تشكيل وإنشاء تشكيلات حزبية افتقرت إليها المملكة طوال سني مئويتها الأولى، وحيث لم يسبق للأردنيين أن مارسوا السياسة، وعاشوا الحياة المدنية وفق القوانين وقواعد اللعب التي تخلقها الحياة الحزبية.

 

 والحال، فإن هذا النشاط المحتدم والذي يبدو أشبه بسباق محموم ضد عقارب الساعة تخوضه الدولة وأجهزتها اللصيقة لخلق خارطة حزبية وبما يترجم جزءا من التوصيات التي خرجت بها اللجنة الملكية لتحديث منظومة الحياة السياسية في الأردن التي كان من أبرز نتائجها التأكيد على مركزية الأحزاب السياسية باعتبارها أهم أدوات التحديث للسياسة والاجتماع والاقتصاد في المجتمع الأردني.

من المهم الاعتراف أن هذا الحراك وبرغم كل الملاحظات التي قيلت والتي سأقول بعضها في هذه المقالة، هو حراك في جانب منه هو حراك إيجابي، ولا يمكن للمرء أن يكون ضده. 

فالحياة الحزبية هي مرحلة مهمة من تحول الجماعات البشرية من ثقافة الروابط الأولية البدائية من عشائرية تستند إلى رابطة الدم، أو طائفية تستند إلى التشارك في رابطة الدين أو المذهب الديني وحيث كل التفاعلات الاقتصادية والاجتماعية والمعرفية واللغوية للجماعة تعتمد على، وتتحدد وفق هذه الروابط الضيقة والمحدودة، إلى روابط مدنية سياسية، أكثر كونية، وأكثر أتساعا تستند إلى التشارك في الانتماء إلى الأرض أو الإقليم الجغرافي. التحول إلى الحياة المدنية والحزبية هو هدف سام لن تستوي حياة الجماعات بدونه، وسوف تبقى هذه الجماعات مجرد كتل من العشائر، والطوائف، والشلل، التي لا ترقى لان تسمى بالمجتمع والأمة، حتى وإن امتلكت حيزا جغرافيا، ورفرفت فوقه أجمل الإعلام وبأكثر الألوان بريقا مصحوبة بأجمل عبارات النشيد الوطني التي تتغنى بالأمة وبالوطن.

الموقف الايجابي من الحراك الذي يتصدر المشهد حول الحزب السياسي وحول التحول نحو الحياة الحزبية في الأردن، لا يلغي على الإطلاق بعض الملاحظات النقدية التي لا بد من تسجيلها وسط هذا السباق المحموم الذي يعيشه جزء كبير من النخب الأردنية. فالتحول نحو الحزب السياسي، وتحول الحزب السياسي إلى قوة وديناميكية ومحور لصناعة السياسة في البلاد ليستبدل الدور التقليدي الذي طالما لعبته العشيرة والطائفة والعصبة لا يمكن إلا أن يحظى بكل التأييد والدعم من قبل كل ذي عقل وبصيرة، غير أن هذا الدعم لهذا المبدأ ولهذا الهدف، لا يلغي بعض الملاحظات حول قضايا جوهرية تتعلق بالمسار الوطني نحو الحزب السياسي ونحو الحياة الحزبية المدنية.

وفي الملاحظات التي أسجلها حول ما يجري على صعيد تشكيل الأحزاب في الأردن، فسوف أشير إلى هذا الدور الذي تلعبه الدولة, وأذرعها البيروقراطية وأجهزتها الأمنية على صعيد الزخم في كل هذا الحراك ما قبل الحزبي المحموم. فالتحول نحو الحزبية وخلق مروحة من الأحزاب السياسية بات هدفا تعمل الدولة وبيروقراطيتها وأذرعها الأمنية على انجازه بحيث بات أمر المخاض الحزبي هو أشبه بمهمة دولة، أو أمر ملكي لحكومة بعينها. والحال، أن الحراك المحموم الذي انخرطت به الدولة وأجهزتها المختلفة قد دفع بعض المراقبين للشأن السياسي إلى التخوف من نتائج محتملة غير محمودة لهذا التدخل الحكومي في أمر تشكيل الخريطة الحزبية في البلد، إلى الحد الذي دفع بمعالي وزير الخارجية الأسبق د.مروان المعشر للحديث عن تخوف من وجود توجه ل”هندسة” ما للحياة الحزبية في الأردن.

في موضوعة ولادة الحزب على الطريقة الأردنية التي نشهدها هذه الأيام، يبدو لافتا هذا الدور للدولة وأذرعها البيروقراطية وأجهزتها المختلفة في المخاض الذي تعيشه الخريطة الحزبية في البلاد، بحيث صار أمر ولادة الحزب، وكأنه قضية دولة وأجهزة دولة، في حين يقف المجتمع متفرجا، أو محايدا أو سلبيا. وكأن أمر إنشاء الأحزاب هو جزء من عمل الدولة وأجهزتها وأذرعها، وكأن الرحم الذي يمكنه، ومن واجبه أن يلد الأحزاب السياسية هو الدولة، وأذرعها، وأجهزتها.

 

 وليس أدل على ما أقول هو هذا الكم من الأخبار والمحتوى الإعلامي والصحفي الذي يصدر عن موقع مقربة من الدولة وأجهزتها، ويروج للأحزاب وللحياة الحزبية، ويمجد التحول نحو الحياة الحزبية.

 

ومما كان لافتا أيضا، هو أن كثيرا ممن يقودون الحراك نحو الحياة الحزبية هم من مجموعات البيروقراط السابقين أو الحاليين، أي تلك الفئة التي ترتبط بالدولة وبالعرش. ومما يثير بعض المفارقات، هو أن الشرائح والنخب التي سبق وخاضت بطولات حقيقية، ودفعت أثمان باهظة، وتضحيات جسام، في العقود الماضية من أجل تكريس الحياة الحزبية تبدو في كثير من مكوناتها وقد تنحت جانبا، وأخذت تراقب المشهد الذي بات يتصدره بعض من كانوا أشد المحاربين والكارهين والمقاومين للأحزاب والحياة الحزبية في البلاد، ولسان حالهم يقول: علمناهم على ….سبقونا على ……. .

 

في الحديث عن العلاقة بين الدولة والمجتمع وولادة الحزب، سوف أحيل القارئ الكريم إلى السياقات التاريخية التي ظهر بها الحزب السياسي وحيث من المهم القول أن هذه السياقات هي سياقات غربية بامتياز، وهو ترتبط بالتحولات التي أحدثها التصنيع وحركة الاحتجاج الديني في القرن السادس عشر وتطور الديمقراطية والرأسمالية، ومسارات العلمنة في المجتمعات الأوروبية. والمقارنة هنا ما بين السياق التاريخي لولادة الحزب السياسي، والسياق التاريخي الذي نعيشه راهنا في المملكة الأردنية الهاشمية لا يخضع مطلقا لهذا الميل الشائع لدى المثقفين ممن يؤمنون بالمركزية الأوروبية أو الغربية، فلست ممن يؤمنون بتفوق ثقافة أو عرق بعينه على ثقافة أخرى وعرق آخر. بل إن سبب هذه العودة للتاريخ الأوروبي فلان فكرة الحزب السياسي هي ظاهرة تاريخية غربية بامتياز، ولأن كثيرا من النخب التي تقود بلادنا الأردنية هم ممن يؤمنون باستنساخ النموذج الغربي، وهم يودون لو تم استنساخ هذا النموذج بكامل مكوناته.

 

في الفارق الكبير بين المخاض التاريخي للأحزاب الغربية، وهذا المخاض الذي نعيشه راهنا في بلادنا الأردنية، من المهم أن نحيل القارئ الكريم إلى نقطة جوهرية؛ وهي تتعلق بنوع الرحم الذي يلد الحزب، وبكيفية ولادته. أهو الدولة، وأجهزتها، أم المجتمع بمكوناته المختلفة، أم بمكون محدد داخل هذا المجتمع، وهو الطبقة الاجتماعية؟ وإذا كان لي أن أجيب على هذا السؤال فسوف أجيب وبكثير من الجرأة، أنه الطبقة الاجتماعية. فمن يحلل التشكيلات الحزبية في البلدان الغربية من ألمانيا، إلى فرنسا، إلى بريطانيا إلى الولايات المتحدة فسوف يلحظ أن وبسهولة أن الديناميكيات المفضية إلى مخاض الحزب هو ديناميكيات طبقية، وحيث يؤدي نشوء طبقة من العمال أو الفلاحين أو الشرائح البورجوازية وحيث الطبقة الاجتماعية هي نسق معيشي اجتماعي واقتصادي معين، وحيث الطبقة الاجتماعية في السياق الغربي هي مجموعة من البشر ممن يتشاركون نفس نمط العيش مكانيا وتعليميا وثقافيا وقيميا وخدماتيا واحيانا لغويا. فتحول المجتمعات الغربية بفعل التصنيع والدمقرطة والعلمنة والرأسمالية إلى مجتمعات ذات تشكيلات طبقية وحيث أفراد المجتمع ينقسمون في كتل وفق نمط العيش ومستوى الدخل وشروط المكان أو المحلة التي يودون العيش بها، هي ما تجعل المجتمعات الغربية مجتمعات طبقية بامتياز.
والحال، أنه بالقدر الذي كانت تتشكل به المجتمعات الغربية طبقيا، وحيث الطبقة الاجتماعية هي ثقافة فرعية سائدة داخل الثقافة الاجتماعية الكبيرة، كانت هذه الطبقة الاقتصادية الاجتماعية، تجد أن من الضروري أن تطور تعيبرا سياسيا عنها، وأن تطور أداة سياسية يدافع عن مصالحها، فكانت الأحزاب السياسية هي هذه الأدوات التي تمكن الطبقة الاجتماعية من المحافظة على نمط عيشها بل تمكنها أيضا من تحسين موقعها الطبقي. فالأحزاب في السياق الغربي هي التعبير السياسي عن كينونات اقتصادية اجتماعية معيشية هي الطبقات الاجتماعية وحيث كل طبقة اجتماعية كانت الرحم الذي شهد مخاض كل واحد من الأحزاب الغربية التي نعرف كثيرا منها في بريطانيا وفرنسا وألمانيا.

 

المفارقة، فيما يجري حاليا في الأردن، هو أن الحزب السياسي ومخاضه يبدو وكأنه شأن الدولة وبيروقراطيتها، وأذرعها، بحيث يصبح الحزب وكأنه مولود للدولة، وأبن لها، في حين يقف المجتمع وتشكيلاته الاجتماعية التي لم تتعقد حتى الآن لتصل إلى مستوى التشكيلات الطبقية متفرجا، وشاهدا على ولادة كائنات ينبغي في المبدأ أن تنتمي له، وأن تخرج من رحمه هو لا من رحم الدولة وبيروقراطيتها. فالمطلوب من الحزب السياسي وكي تكون قواعد ولادته سليمة وكي يتمكن من السير على رجليه، بدلا من سيره مقلوبا على رأسه، أن يكون نتاجا للمجتمع ولتشكيلاته الاجتماعية التي ينبغي الاعتراف أنها ما زالت تشكيلات اجتماعية اقتصادية سابقة للطبقة والدولة والأمة، بمعنى أنها ما زالت تشكيلات تلعب العشيرة والطائفة والعصبة العوامل الرئيسة فيها، وأن كانت هناك بوادر تشكل طبقي باتت تلوح في الأفق الأردني منذ عقود. ففي الأردن هناك هرميات وتباينات، ولكن شكل هذه الهرميات لم يتخذ الشكل الطبقي بعد.

عندما تولد الأحزاب بقوة دفع من الدولة وأذرعها وخصوصا أجهزتها الأمنية، فان الحزب المولود لن يكون مطلقا أداة للتغيير والتحديث والتطوير، بل سيكون أداة لإعادة إنتاج ما هو موجود أصلا، وحيث سيكون الحزب وسيلة أضافية لإعادة إنتاج الواقع المشبع بالتخلف والركود والجمود. وعندما تولد الأحزاب بقوة دفع من أجهزة الدولة، فانه وبدلا من أن يكون الحزب قوة وقناة لإنتاج المجتمع ولإنتاج ديناميات اقتصادية واجتماعية وسياسية داخل هذا المجتمع وبما يتيح إحداث تغيير حقيقي في البنى الاجتماعية التقليدية، فان الحزب الذي يولد من رحم الدولة وأجهزتها سيتحول إلى قوة لا تنتج، ولا تغير، ولا تبتدع، وإنما سيكون مجرد قوة إضافية تعيد إنتاج الدولة بشكلها المترهل الحالي وبما يعزز حالة الاستقطاب وحالة الاغتراب التي تعيشها الدولة الأردنية حاليا داخل سياقها المجتمعي الكبير.

 

في السياق الأردني الحالي، فإن الحكمة تقول أن دور الدولة الحقيقي لا ينبغي أن يكون تشكيل أحزاب وولادة تشكيلات حزبية، فليست الدولة هي من ينجب الأحزاب بل هو المجتمع وتحديدا تشكيلاته الطبقية التي ينبغي لها تنجب الأحزاب. ومع ذلك فإن دور الدولة هو بالتأكيد جوهري وحاسم، في كل ما يتعلق بمساعدة المجتمع الأردني على ولادة الأحزاب وتشكيلها. فالدولة الأردنية يمكن لها، بل من واجبها أن تقوم بالكثير الكثير على صعيد التشريعات والقوانين والاقتصاد والتخطيط الحضري كي تساعد المجتمع كي يكون قادرا على ولادة تشكيلاته الحزبية التي تعبر عن مسارات حياته وتطوره وأحلامه المستقبلية.