كيف عرفت مفتاحي؟
عامر طهبوب
باءت كل محاولاتي بالفشل في العثور على ذلك الحوار الذي أجريته في بدايات التسعينات من القرن الماضي مع الشاعر اللبناني الراحل محمد علي شمس الدين، وكنت أتمنى العثور عليه، لأنقل بالنص الحرفي بعض العبارات التي راقت لي في ذلك الحوار، وأذكر أن اللقاء تم في أحد فنادق عمان، ما زلت أذكر الزاوية التي جلسنا فيها، ولا أنسى إن نسيت أن الرجل كان مشغولاً، أو أنه كان في زحمة لا تمكّنه من التركيز الذهني لإجراء حوار صحفي، وافق رحمه الله على لقاء قصير، وعندما جلسنا، ووجهت له السؤال الأول، ضحك وقال: كيف عرفت مفتاحي؟ قلت: هل هذا يعني أنك ستطيل مدة اللقاء؟ قال مبتسماً: بالتأكيد، لم يبدأ صحفي معي من هذه البداية من قبل، ولك من الوقت ما تشاء، كان السؤال الأول: محمد علي شمس الدين، ما الذي يميز شعراء الجبل عن شعراء السواحل؟
استغرق الحديث أكثر من ربع ساعة في مناقشة صفات أهل الجبل، ليس الرجل فقط، ولكن المرأة أيضاً، فالمرأة الجبلية لها مواصفات تختلف عن مواصفات امرأة الساحل، لا أقول إن هذه أفضل من تلك، ولكن المرأة الجبلية لها صفاتها التي تميزها بالقوة والشموخ، وتحمل الصعاب، والقدرة على التخيل، وهي ما ذكرها رسول حمزاتوف في كتابه عندما تحدث عن نساء يحملن حزمة الحطب في قريته «تسادا»، واللواتي يجد أنهن أجمل من كثير من النساء اللواتي شاهدهن في عواصم العالم.
محمد شمس الدين واحد من «شعراء الجنوب»، كان يحن إلى الجنوب، وإلى سيرة قريته «بيت ياحون»، ويسهب في الحديث عن تلك البيئة الجبلية التي ترعرع فيها، مستذكراً كما قال الزميل نضال برقان صوت جدّه «وهو يؤدي الأذان، والموشحات الدينية، ويقرأ في تلك الفترة شعر المتنبي، والمعري، والشريف الرضي، ومؤلفات الجاحظ والتوحيدي».
برحيل محمد علي شمس الدين، نودع شاعراً كبيراً، ووطنياً فذاً، وعلماً من أعلام الشعر العربي الحديث، ونودع الطفل المذبوح على عتبات النهر، وموسيقى الأفلاك، والبلبل في المطر الوحشي، وطيور الشمس، وضريح النار، والمظلم في الآبار، وخرائب الجسد، والقصائد المهربة إلى الحبيبة آسيا، وبوداعه سيظل الأطفال يقرأون مجموعته: «غنا غنّوا»، رغم الحزن الذي كان دفيناً في أعماق شاعر مرهف، كان يود أن يرى يوماً بهيجاً في حياة أمته، وفي حال بلده، وفي «منازل النرد»، والوعد، والشهد، و»ممالك عالية»، و»كرسي على الزبد»، ومعاناة إلى آخر الأبد، لأولئك «النازلون على الريح»، والذين يعملون على «الإصلاح الهادئ».
«الحكمة بئر، لا يشرب منها، إلا من يسقط فيها»، هذا ما قاله الراحل، أتراه سقط أخيراً في بئر الحكمة، أم تراه أعلى دموعه، والطير ينام على الشجر الأخضر، أم تراه يقول لها الآن: تجيئين بعد انطفائي، تجيئين في لحظة فائتة، فلا توقظيني، وقولي لهم: مات في الانتظار. وداعاً محمد علي شمس الدين.