بل مائة سبب لسقوط الحكام والأنظمة

بعيداً عن شخصية كاتب المقال وأهدافه الشخصية والسياسية؛ فبالتأكيد نجح عماد الدين أديب في أن يصبح مقال له موضوع جدل ساخن وكبير في أوساط النخب المصرية والعربية أيضاً، وبالرغم من أنّ الكاتب نفسه حاول الدفاع عن أفكاره لاحقاً في مقالته "وصيتي الأخيرة لبلادي ورئيسي"، من خلال الإشارة إلى "مؤامرة" أميركية - إقليمية ومحلية لإطاحة نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، فإنّ المقال الأول "14 سبباً لسقوط الحكام والأنظمة" بقي الأقوى تأثيراً وإثارة للنقاش والجدل السياسي.

ولعلّ الأسباب التي قدّمها أديب في مقالته لا تقتصر على نظام عربي من دون الآخر، وتمركزت غالباً حول نخبة الحكم وأجهزة الدولة، تنتقل من الإشارة إلى المرض والأزمة إلى أعراضها ومظاهرها من دون التفكير عميقاً في أسبابها، فـ"فساد النخبة" يرتبط بنيوياً بالأنظمة الاستبداية والسلطوية التي لا تستند إلى بنية ديمقراطية صلبة تقوم على مبدأ سلطة الشعب وتمثيله وحقه في تقرير المصير، وعلى القيم التي تتأسّس عليها الحريات العامة وحقوق الإنسان ومبادئ المواطنة والمساواة أمام القانون والعدالة في توزيع الموارد، والتوازن بين السلطات واستقلالية القضاء والكفاءة والنزاهة في اختيار المسؤولين والقيادات في الدولة.

لا نقول إنّ الديمقراطية لعبة معصومة من الأخطاء أو إنّها تجسّد الدولة المثالية، وإنّ دول العالم الأول التي دخلت المجال الديمقراطي منذ قرون خالية من العيوب التي نعاني منها في العالم العربي؛ لكنّ المنظومة الديمقراطية قادرة على عقلنة المشكلات والسلوك لدى الأنظمة والشعوب على السواء، ووضع الأزمة الاقتصادية في سياق سياسي يوزّع المسؤولية على الجميع، بدلاً من أن تكون عود الثقاب الذي يحرق الأنظمة والحكومات، وربما يؤدي، بدلاً من التداول السلمي للسلطة، إلى تفجير النزاعات المجتمعية والطبقية، وإثارة الهويات المختلفة التي تلبّست في العالم العربي بأبعاد سياسية واقتصادية وثقافية.

للأسف، أضاعت الأنظمة العربية فرصة تاريخية وذهبية للخروج من الأنفاق المظلمة التي لا نزال نتوغّل فيها، عندما شيطنت الربيع العربي والحراكات الشعبية التي تطالب بالإصلاح. وبدلاً من الاستدراك وتصحيح الأوضاع، تمّ تعميق الأزمات، وتغوّلت العقلية الأمنية - البوليسية وتكرّست الديمقراطية الصورية، وتحوّل الرهان من قدرة الآليات السياسية القمعية على مواجهة الأزمة الاقتصادية إلى النقيض تماماً، وهو أمرٌ ساعدت على حدوثه الأزمات المتتالية، مثل كورونا والأزمة الروسية - الأوكرانية، لكنها لم تكن السبب في الفشل، بل عملت على كشفه وتسريعه، كما يذكر أديب نفسه في مقالته الأخرى "بدايات متفجّرة للعام 2023".

تُمكن الإشارة إلى عشرات الأسباب الأخرى، إضافة إلى ما ذكره أديب، منها الفجوة الطبقية الهائلة في العالم العربي اليوم، وتدهور السلطة الأخلاقية للدولة، السجون والمعتقلات، ضعف دور الإعلام في الرقابة والنقد، تدجين مجالس الشعب والنواب، عدم استقلالية القضاء، تدهور التعليم، ارتفاع مرعب في معدلات البطالة، وهكذا لن يعجز أي منكم عن تعداد كم كبير من الأسباب والعوامل التي تؤدّي إلى إشعال المجتمعات والشوارع العربية!

ما لم تدركه غالبية النظم العربية أنّ الربيع العربي غيّر مفهوم السياسة نفسه، وفتح المجال العام أمام الجميع، وأنّ وسائط التواصل الاجتماعي كسرت جذور السلطوية وخلعتها من أساسها؛ التي كانت تعتمد على التحكّم بوسائل الاتصال والمعلومات، فأصبحت المعلومات والأفكار والنداءات الحركية للتغيير تطير بسرعة الريح، ما غيّر من معادلات (وموازين) القوى نفسها، فتراجعت المعارضة التقليدية لصالح المعارضة الجديدة، بالتزاوج مع ما تسمى "الفرصة السكانية" وارتفاع أعداد الشباب التي أصبحت هي نفسها من عوامل الانفجار الداخلي.

للأسف، لم يعد الانهيار على صعيد الأنظمة والحكومات، بل بات يهدّد الاستقرار السياسي والسلم المجتمعي، ولعلّ ما نشاهده اليوم في دول عربية عديدة لا يتجاوز ألعاباً نارية في حال بقينا على المسار نفسه، لأنّ المؤشرات تؤكّد أنّ ما سيحدُث سيكون خطيراً، مع الضغوط الاقتصادية الهائلة التي تعاني منها غالبية الدول العربية.