العايدي يكتب: مواقع التواصل الاجتماعي(2): "دعاة الترند"... لماذا ينشطون في المناسبات الدينية؟

 

 

د.محمد صبحي العايدي


ليس كل ما يتداول على منصات الفضاء الرقمي يعد معرفة، ولا كل من يتكلم مختصاً، بل صار البعض يختزل المعنى، والبعض الآخر يشوه المقصد، لقد انتقلنا من زمن توزن فيه الكلمة قبل أن تقال، إلى زمن تقال فيه الكلمة قبل أن تفهم، وحين دخل الدين إلى منطق «الترند» لم يدخل بوصفه رسالة هداية للناس، بل بوصفه مادة قابلة للاقتطاع والاجتزاء والتأويل السريع، والمنافسة على المشاهدات، هنا يظهر الانزياح الخفي: من كون الدين منهجاً ورسالة قيمية وأخلاقية، إلى كونه منتجاً يقاس بعدد الإعجابات، وليس بعمق الفهم أو المحتوى، ولم يعد السؤال: هل سيصل المعنى، بل، هل يشاهد؟ وهل سيثير الانتباه؟
 

إن من أخطر مظاهر هذا التواصل الرقمي هو التسطيح المعرفي، فالأحكام السريعة، تختزل مسائل ذات سياقات دقيقة ومقاصد عظيمة، في ثوانٍ معدودة، ومقاطع خاطفة، بلا تأصيل ولا تفصيل، وبكلمتين قاطعتين: حلال وحرام، والجمهور المتلقي غالباً يجد في هذه الإجابات راحة مؤقتة، لكنه يخسر فرصة الفهم، وهذا التسطيح في عرض الأحكام من غير فهم وتعمق لمآلات الأفعال، ولا إدراك لمقاصد الشريعة، يتحول من خطأ علمي إلى خطر اجتماعي، حيث تنشأ الفوضى المعرفية التي هي أخطر من الجهل نفسه، فالحكم المجتزأ الذي يطرح بما يتناسب مع فلسفة التسويق الإلكتروني من السرعة والحدة والاختزال، يجعل من الدين مجرد قائمة محظورات ومسموحات، تستهلك بلا وعي في هذه العملية، ويتحول المتصدر أو «اليوتيوبر» إلى موزع أحكام، لا مربّ للقيم والأخلاق.
كما أن غياب النظر المقاصدي يجعل النصوص تقرأ بفهوم ضيقة، فتنزع عنها روحها الإصلاحية، ويستدعي منها ما يبرر الصدام لا الهداية، ففي كل عام يتكرر مشهد سيل الانتقادات والخطابات الحادة التي تظهر فجأة في مواسم الأعياد الإسلامية والمسيحية، كالمولد النبوي الشريف، أو ميلاد السيد المسيح عليه السلام، لتوزيع الأحكام، وتفتيش النوايا، وتصنيف أفراحهم وطقوسهم، فتطلق عبارات التكفير والتضليل، بلا احترام للخصوصية، ولا اعتبار لحساسية العيش المشترك، المفارقة أن هذا النوع من الخطاب الرقمي، لا ينشغل بإصلاح خلل مجتمعي حقيقي يضر بالناس، ولا يظهر عند البناء الوطني، بل ينشط «دعاة الترند» في هذه المواسم لإثارة الفتن، وزرع بذور الجدل، وزيادة الاستقطاب، فالدين هنا لا يُستدعى لتحقيق مقاصده في السلم والرحمة والعيش المشترك بين أبناء الوطن، بل يختزل في خطابات لا تراعي الواقع، ولا التنوع المجتمعي، فيتغذى التطرف على مثل هذا النوع من المنشورات، بينما تهدر القيم التي جاء الدين لترسيخها: كالكرامة، والاحترام، وحسن العيش المشترك، واحترام الخصوصية، خاصة فيما يتعلق بالشعائر الدينية. 
وفي قلب هذه الظاهرة تطفو ممارسات دينية رقمية تسيء إلى الدين من حيث لا تشعر: فتاوى بلا تأهيل، تجريم للمخالف، سخرية من المدارس الفكرية، استعراض للتدين، توظيف للنصوص في الخصومات، وانتقاء لأقوال فقهية مهجورة، لا بقصد البحث العلمي، بل لحصد التفاعلات الرقمية، فأصبح الدين مادة للجدل، وساحة للاستقطاب، وسبباً في تشويش البساطة الإيمانية التي يحتاجها الإنسان، وتحويل الاختلاف من علم له ضوابطه إلى محتوى مفتوح بلا حراسة معرفية، مما خلق وعياً دينياً مشحوناً، سريع الحكم هش الثقة، هذه الممارسات كلها تزيد من حالة الاحتقان المجتمعي، وتغلق مساحات الحوار والفهم، وتشعل ثنائيات حادة، لا تحتمل الرحمة، ولا التسامح.
في النهاية الدين لا يهدد بالنقد بل بالاختزال، حين تتحول الأحكام إلى منتج يقاس بعدد المشاهدات، نفقد جوهر الرسالة، ونحتفظ بقشورها، هنا يبرز دور المؤسسة الدينية في زمن المنصات لضبط الخطاب الرقمي، وحماية الدين من التسيب كما تحميه من التوظيف، كما يقع على عاتقها تجديد أدوات الخطاب دون تفريط في الضوابط، بأن تعيد له عمقه، وللفتوى سياقها، وللمقاصد حضورها، وللاختلاف أدبه، فالدين الذي يقدم من خلال مؤسسة واعية يكون أقدر على توحيد الناس من الذي يترك للاجتهادات الفردية والانفعالات الموسمية، إن قوة المؤسسة الدينية يقاس بقدرتها على البناء: بناء الثقة، بناء الوعي، بناء علاقات صحية مع الجمهور، فهي بذلك لا تحمي الدين وحدة، بل تحمي المجتمع من الانقسام، وتسهم في تجفيف منابع التطرف، وتعيد للخطاب مكانته بوصفه مصدر هداية.. لا مادة ترند.
*باحث في الفكر الإسلامي