أبو زينة يكتب: أي "شرق أوسط جديد"..؟!
علاء الدين أبو زينة
منذ مطلع التسعينيات، بدأ الحديث عن مشروع واسع لإعادة هندسة منطقتنا في الظهور في خطاب الولايات المتحدة والمستعمرة الاستيطانية في فلسطين.
وكان العنوان هو «الشرق الأوسط الكبير» -أو «إعادة تشكيل الشرق الأوسط». ولم يقصد التعبير التوصيف الجغرافي بقدر ما عنى التعبير السياسي عن رؤية إستراتيجية للمنطقة تستشرف دمج المستعمرة الصهيونية في الإقليم من موقف المهيمنة، وإعادة ترتيب موازين القوى بما يرسّخ سيطرة أميركا على الإقليم، وإعادة تعريف علاقة العرب بالكيان الصهيوني الاستعماري ورعاته من موقف الخضوع. وتقاطعت في تصوُّر المشروع خطوط أساسية: تطبيع الكيان في المنطقة قسرا؛ وإعادة هندسة الأنظمة، وتجريد شعوب المنطقة من أدوات القوة وإرادة المقاومة.
تعود البدايات الفكرية للمشروع إلى العام 1993 بعد «اتفاقات أوسلو»، حين قدم شمعون بيريز في كتابه «الشرق الأوسط الجديد» تصورا لتفكيك «الصراع العربي–الإسرائيلي» من خلال «السلام الاقتصادي». ورأى بيريز أن المنطقة يمكن أن تتحول إلى فضاء للتعاون الاقتصادي بقيادة كيانه على أساس تفوقه التكنولوجي وشبكاته الدولية. ووفق هذه الرؤية، يبغي أن قبول العرب بالكيان في المنطقة مفهوم التسوية السياسية ليصبح نقطة انطلاق لنظام إقليمي جديد تُدار من خلاله مشاريع البنى التحتية والطاقة والتقنية بينما يشكل الكيان المركز.
وربما كانت هذه هي الصياغة الأولى لفكرة «شرق أوسط مُعاد التشكيل»، يُفترض فيه أن يؤدي دمج الكيان قسريا في الإقليم إلى الازدهار، بينما تُترَك الجذور التاريخية للصراع بلا حل.
شهدت الفكرة تحولا نوعيا بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001. وفي ذلك الحين تبنّت إدارة جورج بوش الابن خطابا يربط بين «الحرب على الإرهاب» وبين تغيير طبيعة الأنظمة السياسية في الشرق الأوسط، بما في ذلك إعادة تشكيل البنى الدستورية والأمنية. وكان غزو أفغانستان والعراق خطوة في سياق مشروع أوسع يهدف إلى كسر الأنماط التاريخية للسياسة الإقليمية، وإعادة صياغة المجال العربي بطريقة تضمن تفوق الولايات المتحدة وتمنح الكيان الصهيوني فضاء استراتيجيا مفتوحا غير مقيد. وفي ذلك السياق طُرح مشروع “الشرق الأوسط الكبير” رسميا في العام 2004 في قمة الدول الصناعية الثماني، ليغطي المنطقة الممتدة من شمال أفريقيا إلى آسيا الوسطى، تحت عنوان “الإصلاح السياسي والاقتصادي». وكان الهدف هو إعادة هندسة مؤسسات الحكم في المنطقة بما يجعلها أكثر قابلية للارتباط بالمصالح الأميركية، وإعادة تشكيل الهويات السياسية والاجتماعية محليا بطريقة تتوافق مع الهدف.
وفي ذلك الطور من المشروع، دخل مفهوم آخر معجم الخطاب السياسي: «الفوضى الخلّاقة». في العامين 2005 و2006 شرعت وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك، كوندوليزا رايس، في تسويق نظرية تقول بأن الفوضى الناجمة عن سقوط الأنظمة أو الحروب يمكن أن تكون المقدمة لولادة «شرق أوسط جديد». وعلى الرغم من الغموض المحيط بالمفهوم، فإن فكرته كانت أن إعادة تشكيل المنطقة تتطلب تفكيكها أولا. وظهر هذا المنطق بوضوح في حرب تموز «يوليو» على لبنان 2006. وفي ذلك الحين قالت رايس أن ما يحدث في لبنان هو «مخاض ولادة شرق أوسط جديد». وشرح ذلك التصريح خفايا المخطط: لم يعد المشروع يقوم فقط على الدمج الاقتصادي أو فرض إصلاحات شكلية، وإنما أصبح يعتمد استخدام القوة والحروب لتفكيك الدول وإعادة تركيبها بطريقة تخدم تكريس القوة الأميركية وهيمنة وكيلها الإقليمي.
في كل هذا الوقت، تطور مشروع «الشرق الأوسط الكبير» إلى إستراتيجية متكاملة تجاوزت البعد الدبلوماسي. وتم استخدام توليفة واسعة من الأدوات: التدخلات العسكرية؛ والعقوبات الاقتصادية؛ والضغوط السياسية؛ واتفاقيات السلام؛ والسياسات الإعلامية والثقافية الموجهة. وقد خدمت هذه الأدوات الغاية نفسها: تحويل المستعمرة الصهيونية من قوة استعمارية محاصرة تاريخيا برفض عربي واسع إلى دولة مركزية يجري تقديمها بوصفها «الضامن الوحيد للاستقرار الإقليمي».
على صعيد اللغة والخطاب، رافقت المشروع إعادة تعريف للمفاهيم في القاموس السياسي للمنطقة. أصبحت المقاومة -سواء كانت لدولة أو حركة أو فاعل محلي- تُصنّف على أنها «إرهاب» أو مصدر لـ»عدم الاستقرار». وأصبح «الاستقرار» يعني اللحظة التي يتم فيها نزع أدوات القوة من أيدي الشعوب، ويصبح فيها ترتيب الإقليم ناجزا لدى استتباب الخضوع.
وبهذا الفهم المتجني لا يعود «الاستقرار» مشروطا بتوازن القوى وقدرة الدول على حماية نفسها على أساس توازن الردع، وإنما يصبح الأمن مرهونا بمدى بانسجام الدول مع شبكة مصالح العدو على حساب مصالحها الإستراتيجية الخاصة.
من اللافت رؤية العمل الدعائي الكثيف الذي مارسته مراكز البحوث الدولية الموجهة وبعض النخب المحلية لتحميل حركات المقاومة –حتى الفلسطينية منها ذات الواجبات الواضحة والمشروعة- مسؤولية تعكير «صفاء» المنطقة وتعطيل «الاستقرار» و»الازدهار» وفق التعريف الأميركي–الصهيوني، بينما تُعفى السياسات التوسعية الصهيونية، والحروب المتكررة على المنطقة، واللعب على أي اختلاف لتأجيج الحروب الأهلية، وفرض العقوبات الأميركية، من أي مسؤولية عن الفوضى التي يعيشها الإقليم.
يتجاهل مروجو خطاب «السلام/ الخضوع كشرط للازدهار» حقيقة أن تجارب «السلام» والتطبيع مع الكيان لم تنتج سلاما ولا استقرارا ولا ازدهارا للدول التي جربت فيهما. كان العرب الأغنياء الذين طبعوا مع الكيان أغنياء ومزدهرين بمقدراتهم الذاتية سلفا.
ولم يشهد العرب الفقراء الذين طبعوا أي ازدهار أو سلام أو أمن يُعتد به بعد عقود من التطبيع –إن لم تكن مؤشراتهم التنموية قد تراجعت. أضف إلى ذلك التوتر الداخلي الكامن المترتب على التناقض بين السياسات الرسمية والإرادة الشعبية.
كان ما يحاوله مشروع «الشرق الأوسط الجديد» هو إعادة رسم المنطقة على أساس اختلال ميزان القوة ليميل بشدة بشده لصالح الكيان ورعاته الغربيين.
وينبغي فهم العمل الجاري اليوم على تحقيق هذه الرؤية في السياسات الأميركية تجاه المنطقة، وفي الضغوط الوحشية التي تُمارس على لبنان وغزة وسورية والعراق، وفي محاولات إعادة تركيب النظام الإقليمي على أساس ممرات الطاقة والتحالفات «الأمنية» التي تعلّق ترهن مصير العرب بأيدي الآخرين المعادين بالتعريف.
هذا ترتيب غير طبيعي، يتعارض مع معنى الاستقرار في أي معجم، ومع الفهم الغريزي للأمن. وعلى الرغم مما يبدو نجاحا في فرض هذه الرؤية، فإن من المستحيل تثبيت هكذا «شرق أوسط» من أعلى ومن الخارج، على أساس نزع استقرار وأمن شعوبه ورفضها المطلق والواعي لما يتم الترتيب له.