خطاطبة يكتب: عمان تختنق!

 

 

محمود خطاطبة


لم تعد الأزمة المرورية في المملكة مُجرد ضغط مؤقت أو ساعات ذروة على الطُرقات يُمكن التعامل معها بحلول إسعافية بالية، بل إيقاع يومي قاتل، يتغلغل في تفاصيل حياة الناس، يؤثر على قراراتهم اليومية، ويُعيد ترتيب أولوياتهم الاجتماعية والإنسانية والوظيفية.
 

من الطُرة في أقصى الشمال إلى الدُرة بأقصى الجنوب، والحديث لا يتوقف عن المواطن الذي يضطر إلى التكيف والموازنة بين التزامات حياته، وبين احتمالية الوقوع في شرك مروري، قد يستنزف وقته، وطاقته، وأعصابه، وماله.
أحيانًا تختفي بعض اللقاءات الإنسانية البسيطة، مثل زيارة الأقارب أو حضور مُناسبة اجتماعية، أو حتى قضاء مُهمة لدفع الفواتير أو عيادة طبيب، كخيار دفاعي لتجنب الدخول في دوامة أزمات تبدأ ولا تنتهي، وتتوج غالبًا برحلة مُذلة لإيجاد موقف.
والأثر يمتد أيضًا إلى المجال المهني، حيث يضطر الموظفون وأصحاب الأعمال إلى إعادة جدولة مهامهم باستمرار، وتأجيل اجتماعات، أو تفويت فُرص كانت من المُمكن أن تؤثر في الإنتاجية والفاعلية الاقتصادية.. وعليه، فإن الشلل المروري اليوم يعوق تدفق النشاط الاجتماعي والاقتصادي، ويقود فيما يقود إلى خسائر غير مُباشرة تُكلف المُجتمع الوقت والجهد والموارد.
وفي هذا السياق، تُصبح الأزمة المرورية مرآة لتفاعل مُعقد بين التخطيط الحضري ونمط الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وهي انعكاس لتوسع المُدن بوتيرة أسرع من قُدرة البُنية التحتية على استيعاب حركة السكان.
لكن ما يزيد الوضع تعقيدًا، هو أن بعض الحلول التي تُقدم لمُعالجة الأزمة تُركز على العقاب أو الرقابة، مثل الكاميرات وأعمال الإغلاق المُفاجئة، فتخلق لدى المواطن شعورًا بالضغط والمسؤولية الفردية تجاه أزمة لم تكن في يوم من الأيام من صنعه.
منذ العام 1995، ومع بداية مسيرتي المهنية بالانتقال من مدينتي الحبيبة (إربد) إلى عمان، والأزمة علامة لازمة، لكن كان يجري التعامل معها بنوع من التحايل والتسخيف مثل: عودة المُغتربين، أو ساعات الذروة، أو حتى تحميلها للمواطن.
 لكن اليوم، من غير المقبول أخلاقيًا أو قانونيًا تحميل السائق جُزءًا من المُشكلة، لأن المواطن ليس سبب الازدحام، بل ضحية لخلل في التخطيط الحضري، ونقص الخيارات البديلة الآمنة والمُفيدة للنقل.. في حين أن الحلول الأمنية الترقيعية لا تُنتج مدينة أكثر إنسيابية، ولا توفر الوقت الذي يُهدر، ولا تُقلل من التكاليف الاقتصادية الناتجة عن ضياع ساعات العمل والفُرص التجارية، ولا تُخفف من الضغوط الاجتماعية التي تتولد عن تأخير الإنسان عن التزاماته اليومية.
الأزمة المرورية تتطلب مُعالجة من جذورها، تبدأ بتخطيط حضري، يعترف بالمدينة كمكان للإنسان، قبل أن تكون ممرات للسيارات، ونظام نقل عام موثوق يُتيح خيارات مُتعددة، وتطبيق حلول تقنية ذكية لتوزيع الحركة وتقليل الضغط على الطُرق، دون تحويل الطريق إلى مسرح رقابة، يُثقل كاهل السائق بالمسؤوليات التي لا يملك التحكم فيها.
مُعالجة الأزمة بهذه الطريقة له أيضًا آثار اقتصادية واضحة، إذ تُساعد على زيادة الإنتاجية، وتخفيف الخسائر الناتجة عن التأخير، وتحسين كفاءة القطاع الخاص، وتُساهم في تحقيق توازن بين الحياة العملية والاجتماعية.
ولأن الجانب الاجتماعي للأزمة لا يقل أهمية عن الاقتصادي، فازدحام الطُرق أصبح يؤثر على العلاقات اليومية، ويجعل الالتزامات الإنسانية أقل تواترًا، ويُقلل فُرص التفاعل المُجتمعي الطبيعي.. هُنا تبدأ الحياة الاجتماعية في الانكماش تدريجيًا بسبب ضغط الوقت الذي يفرضه الازدحام.
المُدن التي لا تُعادي الإنسان، هي تلك التي توفر له وسائل نقل بديلة، وتُعيد الحياة الاجتماعية إلى مسارها الطبيعي، وتخلق بيئة أكثر استقرارًا وراحة، حيث يُمكن للإنسان أن يتنقل بحرية بين التزامات العمل والأسرة والمُجتمع دون أن يتحكم فيه ازدحام الطُرق.
إن الأزمة المرورية مرآة لتحديات التخطيط الحضري والاقتصادي والاجتماعي معًا، وفشل مُعلق في رقاب الجميع، والحلول الحقيقية تتطلب رؤية شاملة، تُعيد للمدينة دورها كمساحة للحياة، وتُعيد للمواطن حقه في الوقت والحُرية، بعيدًا عن أي حلول مؤقتة تقوم على العقاب والرقابة، فتتحول المدينة من مكان يفرض قيوده اليومية على الإنسان، إلى فضاء يسهل الحركة ويُعزز النشاط الاجتماعي والاقتصادي على حد سواء.