القضاة يكتب: ناقصاتُ عقل و دين !

 

 

غيث هاني القضاة

جلستُ قبيل الانتخابات النيابية قبل فترة طويلة مع أحد اصدقائي من بعض التيارات السلفية وكان قد وزّع ورقة ذكر فيها أسبابًا كثيرة لمقاطعة الانتخابات النيابية حينها ، من ضمنها أن الحُكم سيكون لغير الله ، وأن الدستور الوضعي كُفر ، وأن الرأي في مجلس النواب للاكثرية و ليس للنصوص الشرعية، ومما لفت نظري أيضا في مقولته بأنه سيكون هنالك نساء وهنّ ناقصات عقل و دين ! و لا يجوز لهنّ الولاية العامة حسب النصوص الشرعية التي أوردها في المنشور(ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة).

حيث جاء صديقي بعد كل سبب للمقاطعة بالايات القرانية و الاحاديث النبوية التي يرى هو وجماعته تفسيرها و تعليلها منطبقة على هذا الواقع دون تمحيص و دون دراية أو أدنى حد من حدود استيعاب و فهم النصوص، ولقد آلمني أن أجد فئة من الجماعات الإسلامية تعيش بيننا وتؤثر في عقول الشباب والتي ما زالت سطحية في فهم بعض النصوص ، ضعيفة في الاجتهاد و التي أحيانا لا تُقيم للعقل وزناً و الذين ما زالوا يُقدمون نموذجا من الجمود و التقليد في بعض المسائل الفقهية ، و يُقدسون العادات و التقاليد على حساب الدين بل و يجعلونها للاسف ديناً! يُستمع لهم ويُؤنس لرأيهم!.

فأخذ يسألني أين تذهب من حديث رسول الله الذي قال فيه (ناقصاتُ عقل و دين)؟ و أين تذهب من الاية التي تقول بأن شهادة المرأة نصف شهادة الرجل ؟ و كيف تستطيع أن تجعل (مَرَه)"مع المعذرة من القارئات الكريمات" تحكم و تُسيطر و تُشرّع القوانين في مجلس النواب ، فقلت له انتم تُفسرون الاحاديث و الايات النبوية في هذا الموضوع بالذات تفسيرا شاذاً و مغلوطاً و بل يتصل فهمكم في إحتقار المرأة بالعادات و التقاليد البالية التي تنتقص من أهليتها و تعزلها عن العمل العام و تُعطل قدراتها وملكاتها ، وكم من عقل امرأة يساوي عقول عشرات الرجال، وكم من رأي إمرأة يساوي رأي مئات الرجال ، فأين تذهب بالله عليك بقوة رأي أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، تلك الطاقة الخلاّقة التي دعمت الرسول و الدين الاسلامي ، حتى كان عام وفاتها عام حزن للمسلمين والتي كانت أسبق من كل الرجال بالإيمان ؟.

وماذا تقول عن أول شهيدة في الاسلام التي قدمت نفسها لله تعالى في وقت قلّت فيه الرجال ؟ وأين تذهب بطليعة النساء المؤمنات الصحابيات اللاتي شاركن في العمل السياسي و الشوري و الفقهي و الادبي و القتالي ، وأين تذهب بالصحابية الشفاء بنت عبدالله التي تميزت بالعقل و الحكمة و التي ولاّها عمر رضي الله عنه (ولاية الحسبة و الاسواق و التجارة )، وأين تذهب بالله عليك من الاية الكريمة التي ذكرت ملكة سبأ والتي أثنى عليها و على ولايتها العامة القرآن الكريم، والتي كان رأيها و عقلها متقدما على رأي و حكمة كل الرجال الذين كانوا حولها ، وكانت تحكم بالمؤسسة الشورية من الرجال الذين كانوا حولها ، فليس عبثا أن يأتي هذا المَثل في القرآن لكي يُعطيك دليلا قوياً على تولي المرأة الولاية العامة والتي قد قدّمت فيه نموذجا في الحكمة و الدراية عجزت عنه معظم الرجال ، و ذمّ القرآن في نفس الوقت فرعون مصر (الرجل) لأنه انفرد بالولاية و سلطة صنع القرار !

و لقد عُدت الى هذا الحديت الذي رواه البخاري و مسلم رحمهما الله تعالى ، ووجدت كلامًا كثيرا في فهمه وفهم سياقاته ، وصدرت فيه كتب كثيرة جاء فيها ،أنه عليه السلام قد قال هذا الحديث في يوم عيد (يا معشر النساء ما رأيتُ من ناقصات عقل و دين أذهبَ للُب الرجل الحازم من إحداكن،... ) وهذا بالمناسبة من الاحاديث الشائعة جدا للإنتقاص من حق المرأة و من أهليتها، حتى أن الكثير من النساء تقبلنه وجعلنه ذريعة لنكوصهن و تراجعهن و خيبتهن ! فكيف بالله عليكم من صاحب الخُلق العظيم والذي عُرف برفقه بالنساء والذي وصّى بهن و هو على فراش الموت كيف نتصوره يختار يوم الزينة و يوم العيد ليتحدث عن النساء بالذم و التقريع و الحكم المؤبد بنقصان الاهلية !! بل إن معظم ما يقوله اصحاب العقل و أهل الدراية في الاحاديث بأن هذا الحديث جاء مديحًا للمرأة وجاء فيه اشارة الى غلبة العاطفة و الرقة على المرأة، و التي صارت سلاحا تغلب به أشد الرجال عقلا و حزما، فنقص العقل هو وصف لواقع تفتخر به المرأة وهو مدح للعاطفة الرقيقة ووصف لواقع محمود لا مذموم ، و يا ويح من حُرمتْ من إستخدام هذا السلاح الذي امتلكته المرأة، و يا شقاء أهل الحزم من الرجال الذين قد حُرموا الهزيمة أمام هذا السلاح(سلاح العاطفة) !

حتى حديث (الولاية) الذي جاء ذريعة في حجتهم لمقاطعة الانتخابات حينها ، وقصته المعروفة عندما تم اخباره عليه السلام من نفر قدموا من بلاد فارس الى المدينة المنورة بأن كسرى فارس قد مات ، فسألهم عليه السلام و من يلي أمر فارس ؟ فقالوا (امرأة) فقال عليه السلام (ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) فملابسات الحديث جعلته نبوءة بسقوط و زوال مُلك فارس، و التي تحققت بعد سنوات و ليست تشريعا يُحرم ولاية المرأة العمل العام و السياسي كما يذكر ذلك الكثير من أصحاب الفكر و الرأي و الاجتهاد ، وقد كان هذا الحديث خاصا بولاية الدولة أو رئاسة الدولة حينها، مع أن قناعتي الان و يقيني بأن الذي يُدير الدول هو المؤسسات و دوائر صُنع القرار و ليس الاشخاص أو الافراد كما كان في العصور القديمة.

وقد تعرفنا في تاريخنا الحديث على تلك المرأة الحديدية البريطانية التي أدارت وحكمت بريطانيا العظمى لسنوات طويلة بحكمة و جرأة بل وقدّمت نموذجا فريداً في حكم المرأة هناك ، وهنالك العشرات من الأمثلة الحديثة التي أكدت لنا أن المرأة تستطيع في دولة المؤسسات أن تقود دولة بأكملها كما يديرها الرجل تماما، حيث أن الذي يحكم الان دولة المؤسسات و ليست دولة الأفراد ، لكني لقد وجدت أيضا بانه لا خلاف بين جمهور الفقهاء على اشتراط (الذكورة) فيمن يتولى الخلافة العامة لدار الاسلام وهو الرأي الفقهي الذي احترمه بلا شك، و لكنني اعتقد بأن الواقع الان يقول بغير ذلك ولا بد باعتقادي من إعادة النظر في مثل هذه المسائل الفقهية التي كانت وليدة سياقاتها السياسية والاجتماعية ، واعتقد أن العلماء الذين أفتوا في تلك المسألة قالوا رأيهم حسب ظني في ظل (فردية الولاية) قبل أن تتقدم النظم الحديثة الى هذا المستوى المؤسسي من الحكم وهنالك مسؤولية كبيرة على الفقهاء والمختصين والباحثين في الفقه الإسلامي بأن يدرسوا هذه الأحاديث ويبحثوا في سياقاتها ودلالاتها ومدى صحة أن تكون أحكاما فقهية خاصة يُراد بها العموم!

أعجبني قول الداعية النابلسي عندما ساق مثلا على نقص عقل المرأة ،حيث قال مثلا بأن العربة المُعدّة أصلا لنقل البضائع لا تكاد تجدُ فيها مقعدًا للجلوس، وهذا نقص ٌ في العربة و لكنه نقصٌ مهم، ونقصٌ يُكمّل هذه العربة؛ فنقصُ مقاعد الجلوس هو كمالٌ في هذه العربة ، و كذا العربة المُعدة للركوب ، نقصُ مكان البضائع فيها هو كمالٌ فيها ، فبعضُ النقص كمال وأيُ كمال أحيانا ً، وكذا المرأة فزيادة العاطفة لديها و غلبتها على العقل هو كمالٌ فيها وأي ُ كمال ، وكذا الرجل نقصُ العاطفة لديه كمالٌ له وأيُ كمال، فالنقص ليس مذمة بقدر ما هو توصيف يشير الى مواطن القوة والضعف التي يقوي أحدها الآخر.

من المؤسف أن تجد بعض المثقفين والمتخصصين يرددون هذه المفاهيم ويتمسكون بظواهر النصوص دون فهم سياقات بعض الأحاديث ويأتون بالقواعد الفقهية لتقزيم مفهوم بعض الأحاديث المتعلقة بالمرأة ، فيقيدون واسعا من حديث النبي عليه الصلاة والسلام بقواعد فقهية قد لا تنطبق وقد لا تصح ، فتقدمت عندهم وهيمنت قوة الرواية على قوة الدراية في فهم الأحاديث النبوية ! وحسبنا من الأدلة في ذلك نبينا عليه الصلاة السلام عندما بايع النساء فبايعهن بيعتهن الخاصة بهن ، ولم يُنب عنهن فيها الرجال ،قائلا لهنّ عليه السلام مُحفزا و مُوجهاً (فيما استطعتن و أطقتن) .