"شهادة طب للإيجار".. تحقيق يكشف كارثة في الأردن

 

 

على مجموعات مغلقة في "فيسبوك" وتطبيقات المراسلة، تُنشر يوميًا إعلانات قصيرة تتضمن: "شهادة طب عام للإيجار السعر حسب الاتفاق" أو "مطلوب اسم صيدلاني لترخيص صيدلية"، لكن خلف هذه المنشورات، التي تتوارى بسرعة بعد بضع ساعات، تعمل سوق سوداء نشطة تُباع فيها التراخيص الطبية كسلع، ويُستخدم أسماء أطباء وصيادلة مرخصين لتغطية منشآت يُديرها أشخاص غير مؤهلين.

وتتبع تحقيق للجزيرة، عشرات هذه الإعلانات والمحادثات المغلقة، ووثّق عقودا واتفاقات شفهية وورقية تكشف عن نظام موازٍ داخل القطاع الصحي الأردني، يتغذى على الحاجة الاقتصادية وضعف الرقابة، ويهدد الثقة بين الطبيب والمريض. التحقيق تابع كيفية برم الاتفاق، ومن المستفيد، ومن يدفع الثمن، وصولًا إلى غياب الرد الرسمي من الجهات الرقابية.

كيف تعمل السوق الموازية لتأجير الشهادات الطبية؟

في الظل، وداخل مجموعات مغلقة على "فيسبوك" وتطبيقات المراسلة، يتداول عشرات الأطباء والصيادلة والمستثمرين عروضا لتأجير الشهادات الطبية، وتبدو المنشورات للوهلة الأولى كإعلانات عادية، لكنها في الواقع جزء من سوق خفية تتبادل فيها الأطراف أدوار البائع والمشتري.

تُعرض الشهادات الطبية للإيجار بمبالغ تبدأ من 50 دينارا وقد تصل إلى 300 دينار شهريا، بحسب التخصص والموقع والطلب، أحد المنشورات التي رصدها التحقيق أظهر شخصًا يعلن استعداده لتأجير شهادته الطبية مقابل مبلغ بسيط، بينما كتب آخر: "شهادة طب عام للإيجار... السعر حسب الاتفاق". وتبيّن من المتابعة أن هذه المنشورات تُحذف سريعا بعد التواصل الخاص بين الأطراف، ما يشير إلى درجة عالية من الحذر والسرية.

يقول أحد المشاركين في هذه المجموعات، وهو طبيب سابق توقّف عن مزاولة المهنة، إن الاتفاقات تتم عبر وسطاء موثوق بهم يعرفون تفاصيل السوق: "يقوم الوسيط بربط المستثمر بالطبيب المناسب، ويتم الاتفاق على بدل شهري دون أي توثيق رسمي".

أما العقود الورقية، فعندما تُكتب، تكون صورية لتغطية المظهر القانوني للعيادة أو الصيدلية، وتتضمن بندًا ينص على أن الطبيب المؤجّر "غير مسؤول إداريًا أو ميدانيًا عن المنشأة"، ما يمنح الطرفين شعورًا زائفًا بالأمان.

استثمار في الاسم مقابل المال

خلال إعداد التحقيق، تم رصد نموذج عقد فعلي يتضمن شروط استخدام الشهادة ومدة الاتفاق، بالإضافة إلى بند لإنهاء العقد وديا. ويُظهر العقد أن العلاقة بين الطرفين تقوم على الاستفادة المتبادلة: الطبيب يبحث عن دخل ثابت دون التزام وظيفي، والمستثمر يسعى إلى ترخيص قانوني سريع يتيح له افتتاح مشروع طبي دون مؤهلات مهنية.

مع توسع هذه الممارسات، لم يعد "تأجير الشهادات" مجرد استثناء عابر، بل تحول إلى تجارة تُدار بعناية تحت مظلة الحاجة والربح، وبدأت ملامح سوق موازية تتشكل داخل القطاع الصحي، تعمل في الخفاء لكنها تترك أثرًا واضحًا في ثقة المرضى وجودة الخدمات.

قصص شخصية: الأطباء في مواجهة الحاجة

يقول الطبيب محمد (اسم مستعار) إن فكرة تأجير شهادته كانت آخر ما قد يفكر به. بعد أعوام من الدراسة والديون، وجد نفسه عاجزًا عن الوفاء بالتزاماته، فعبر شبكة معارفه التقى مستثمرًا يبحث عن مشروع طبي، وتوصلا إلى اتفاق يقضي بتأجير اسمه مقابل 600 دينار شهريا.

ويصف محمد التجربة بأنها "الملاذ الأخير من أزمة خانقة"، ويعترف أن الشهادة التي حلم بها لإنقاذ الناس تحولت إلى وسيلة لإنقاذ نفسه من الفقر.

أما الطبيب رائد (اسم مستعار)، فقبل عرضًا مشابهًا لتسجيل اسمه في مركز طبي غير مرخّص، لقاء مبلغ ثابت ودون عقد رسمي. ورغم إدراكه للمخاطر القانونية، يرى أن "المشكلة بالنظام الذي جعل الشهادة عبئًا بدل أن تكون فرصة".

القصة ذاتها تكررت مع الطبيب العام مروان (اسم مستعار)، الذي أجّر شهادته لترخيص عيادة تجميل، ويصف العقد بأنه "قانوني في ظاهره لكنه في جوهره تأجير صريح"، ويتضمن بندًا يعفيه من أي مسؤولية مهنية، ما يجعله درعًا شكليًا لا يحميه من المحاسبة.

سوق الصيدلة: توسع الظاهرة وتأثيرها

في قطاع الصيدلة، تتسع الدائرة أكثر. الصيدلاني رامي (اسم مستعار) نشر إعلانًا على "فيسبوك" بعد أن قرأ عن عروض مشابهة، وسرعان ما تلقى عرضًا بدخل ثابت قدره 700 دينار مقابل استخدام اسمه فقط. يقول: "الاتفاق بسيط وسريع، لكن تبعاته المعنوية ثقيلة، خاصة عندما تدرك أن الصيدلية تُدار من أشخاص بلا ترخيص".

أما الصيدلانية ليلى (اسم مستعار)، فتروي قصتها بنبرة ندم: "الأمر يبدو بسيطًا، عقد مكتوب يحدد المدة والمبلغ، لكن كلما سمعت عن خطأ طبي أشعر أنني شاركت فيه بطريقة غير مباشرة". معظم العقود تشمل بنودًا ترفع المسؤولية عن الطبيب أو الصيدلاني، بينما يحصل المستثمر على ترخيص رسمي، ما يجعل القانون نفسه غطاءً لتجاوز القانون.

الضحايا الحقيقيون: المرضى بين المخاطر والجهل

حين تتحول الأخطاء إلى جرائم، لا يدفع ثمن تأجير الشهادات أولئك الذين وقعوا العقود، بل من وثقوا بالأسماء المعلّقة على الأبواب. المريض هو الخاسر الأول حين يجد نفسه بين يدي شخص لا يعرف من الطب سوى عنوان العيادة.

وثّق التحقيق شهادات عدة لمرضى تعرضوا لأذى جسدي مباشر نتيجة هذه الممارسات، بعد أن تبين أن من عالجهم لا يحمل أي مؤهل طبي، بينما الاسم المعلّق على الرخصة يعود لطبيب لم تطأ قدماه المكان.

من بين الحالات، محمد صبري (اسم مستعار) الذي قصد عيادة أمراض صدر بعد معاناة مع السعال وصعوبة التنفس، وتدهورت حالته بعد وصفة خاطئة.

أمينة (اسم مستعار) خضعت لحقن تجميل وتعرضت لتشوه دائم.

رامي محمود (اسم مستعار) فقد قدمه بعد حقنة مضاد حيوي في مركز صحي خاص.

منصور ناصر (اسم مستعار) الذي اصطحب والدته لتركيب جسر أسنان، وتعرضت لمضاعفات حادة نتيجة مواد رديئة، بينما الطبيب صاحب الاسم لم يزر العيادة منذ شهور.

القانون والرقابة: ثغرات أم قصور؟

بحسب وثائق قضائية، أصدرت محاكم عمّان أحكامًا تثبت ممارسات لتأجير شهادات طبية وصيدلانية، أبرزها القضايا أرقام 8220/2022 و2240/2022 و1111/2020، ووصف القضاة هذه الأفعال بأنها انتحال صفة وممارسة مهنة دون ترخيص.

المحامي قصي النقرش أوضح أن تأجير الشهادات يشكل جريمة مكتملة الأركان، لأنها تجمع بين التزوير والاحتيال وانتحال الصفة. بحسب المادة (5/ب) من قانون الصحة الأردني، "لا يجوز لأي شخص القيام بأعمال الدعاية والإعلان أو ممارسة أي من المهن الطبية أو الصحية ما لم يحصل على ترخيص من الوزير".

المادة (62/ب) من قانون الصحة العامة الأردني تنص على عقوبة الحبس من ثلاثة أشهر إلى سنتين أو غرامة 2000 إلى 5000 دينار لكل من مارس مهنة صحية دون ترخيص. وزارة الصحة تتحقق من التراخيص على الورق، بينما النيابة العامة تتولى التحقيق في قضايا التزوير وانتحال الصفة، ويقوم جهاز الأمن العام بجمع الأدلة اللازمة.

وتمثل النقابات المهنية خط الدفاع الأول، لكنها غالبًا تتحرك بعد وقوع الضرر، عبر لجان تحقيق داخلية قد تنتهي بإنذار أو شطب من السجل المهني.

الأسباب الاقتصادية والاجتماعية للظاهرة

الدكتورة لينة السواعير ترى أن الظاهرة تهدد العلاقة بين الطبيب والمريض وتضرب مصداقية القطاع الطبي. الصيدلانية وعد الدن تشير إلى أن النساء يشكلن نسبة كبيرة من المتورطات بدافع الحاجة المادية والبطالة.

وأظهر التحقيق أن المشكلة نابعة من ثلاثة عوامل: الحاجة الاقتصادية، الثغرات القانونية، وضعف الرقابة. الحل، بحسب الخبراء، لا يكمن في العقوبات وحدها، بل في إعادة تنظيم سوق العمل الطبي بما يتناسب مع أعداد الخريجين، وتفعيل الرقابة الدورية للوزارة والنقابات، ومحاسبة الجهات التي تمنح تراخيص شكلية دون تحقق ميداني.

الشهادة بين الضمير والربح

حين تُؤجَّر الثقة ويُختبَر الضمير، تتحول الشهادة من حلم بالإنقاذ إلى عبء ثقيل يدفع أصحابها إلى بيع الاسم وتأجير الضمير. مع مرور الوقت، تتآكل الثقة بين الطبيب والمريض، وبين المجتمع ومؤسساته الصحية.

السؤال الذي يطرحه التحقيق يبقى مفتوحا: من يحمي المريض عندما تتحول الشهادة الطبية من عهد بالثقة إلى صفقة بالربح؟