نتنياهو يستعد لحرب جديدة
اختار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الوقوف بشكل كامل خلف وزير دفاعه يسرائيل كاتس في معركته مع وزير المالية بتسلئيل سموتريش، مانحًا المؤسسة العسكرية زيادة غير مسبوقة في موازنتها تصل إلى 107 مليارات دولار على مدى عشرة أعوام، في خطوة وصفها مراقبون بأنها إعلان رسمي عن دخول كيان الاحتلال مرحلة "اقتصاد الحرب".
وحسمت حكومة الاحتلال الإسرائيلي، الجمعة، الجدل المحتدم داخل الائتلاف منذ أسابيع حول ميزانية الدفاع، بعد إقرار زيادة بنحو 70% مقارنة بما قبل الحرب، بواقع 350 مليار شيكل إضافية، في واحدة من أضخم عمليات التوسع المالي في تاريخ وزارة الدفاع.
وتشير تقديرات إسرائيلية إلى أن ميزانية الدفاع ستستحوذ وحدها على نحو 26% من ميزانية الدولة لعام 2026، المقدّرة أوليًا بـ 600 مليار شيكل، ما يعني أن إسرائيل اختارت موازنة تعبئة عسكرية شاملة للعام المقبل.
وتتفق مراكز بحث ومصادر سياسية إسرائيلية على أن هذه الزيادة الضخمة ليست مجرد مخصصات إضافية، بل مؤشر واضح على أن المؤسسة الأمنية تستعد لجولة أوسع من المواجهات، قد تشمل لبنان وإيران واليمن، مع استمرار العمليات العسكرية المنخفضة الوتيرة في الضفة الغربية، والتوغلات الجوية في سوريا.
وتؤكد هذه المصادر أن الأمن بات متقدمًا لدى الحكومة الإسرائيلية على ملفات التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية، في منحى متصاعد منذ أكتوبر 2023.
وترجّح دوائر عسكرية أن تكون إسرائيل على أعتاب مواجهة ثانية مع "حزب الله"، خصوصًا بعد انتهاء زيارة البابا المرتقبة للبنان، ومع اقتراب المهلة التي حددها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للجيش اللبناني لإتمام إجراءات نزع سلاح الحزب.
وتعزز التقديرات فرضية الحرب مع ما تصفه الأوساط الإسرائيلية بـ"المظلة الدولية"، التي يوفرها الفيتو الأمريكي، إضافة إلى المناخ الإقليمي الذي يلقي بمسؤولية التصعيد على الحزب بسبب ما تعتبره إسرائيل تعطيلًا لتنفيذ القرار 1701.
وتستند تل أبيب أيضًا إلى ما تسميه "تآكل البنية القيادية" داخل الحزب، مستشهدة بتصريحات نائب أمينه العام نعيم قاسم التي كشف فيها أن القائد العسكري أبو علي الطبطبائي عاد من اليمن إلى لبنان في 2024 بعد تسع سنوات من العمل هناك، معتبرة هذه العودة مؤشرًا على فراغ قيادي حرج دفع الحزب إلى استدعاء كوادره من خارج الساحة اللبنانية.
وترى الأوساط الإسرائيلية أن الضوء الأخضر الأمريكي بات أوسع من أي وقت مضى، وهو ما عبّر عنه السفير الأمريكي الجديد في لبنان ميشال عيسى في مقابلة مع صحيفة "هآرتس"، حين قال إن إسرائيل "هي التي تقدّر احتياجاتها الأمنية"، وإنها "لا تحتاج إلى إذن من واشنطن للدفاع عن نفسها". وأضاف أن واشنطن تضغط على الحكومة اللبنانية لتنفيذ القرار المتعلق بنزع سلاح الحزب، معتبرًا تنفيذه "ضرورة لإعادة سلطة الدولة".
وتأخذ السيناريوهات العسكرية في الاعتبار أيضًا الحسابات الانتخابية المرتقبة في كل من الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي قد تغيّر موازين اللعبة السياسية. ففي واشنطن يخشى ترامب سيناريو "البطة العرجاء" إذا ما سيطر الديمقراطيون على الكونغرس، بينما قد يشهد الداخل الإسرائيلي إعادة تشكّل للائتلاف الحاكم يربك حسابات نتنياهو.
وبرغم كشف الجيش اللبناني عددًا من أنفاق الحزب وعرضها إعلاميًا، ترى تل أبيب أن هذه الإجراءات غير كافية، وأن "البنك العملياتي" ضد الحزب ما يزال مفتوحًا. وقد ربطت إسرائيل لأول مرة بين ملف سلاح الحزب وبين استمرارها في الالتزام باتفاق ترسيم الحدود البحرية الموقّع في 2022.
وتشير مصادر عسكرية إلى أن الزيادة الضخمة في ميزانية الدفاع موجّهة بالأساس لتطوير منظومة الدرع الصاروخية بعد الثغرات التي ظهرت أمام الهجمات الإيرانية، وتعزيز قدرات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات، وتوسيع الإنفاق على القوات العاملة والاحتياط، وتعويضات الجرحى وعائلات القتلى، إضافة إلى تحديث الأسطول البحري والجوي، والتزود بمنظومات قتالية متقدمة تتجاوز قيمتها المساعدات الأمريكية وعائدات الصناعات العسكرية.
ويقف الخبراء الاقتصاديون أمام "إكراهات ثقيلة" سيواجهها الاقتصاد الإسرائيلي خلال العقد المقبل، إذ يتوقع أن تلجأ الحكومات المتعاقبة إلى إلغاء مخصصات تنموية وتحويلها للدفاع، وعلى رأسها ميزانية "المجتمع العربي" التي خُصصت لتحسين التعليم والبنية التحتية وفرص العمل داخل المدن العربية. كما يُنتظر أن تمتد الاقتطاعات إلى التعليم والصحة والثقافة والمساعدات الاجتماعية.
وبرغم ذلك، يحذر اقتصاديون من أن إسرائيل ستواجه معضلة معقدة في توفير السيولة اللازمة لتغطية هذه التوسعات دون فرض ضرائب جديدة على الطبقتين المتوسطة والفقيرة، ودون التسبب بارتفاع التضخم، ودون الاعتماد المفرط على الدعم الأمريكي، الذي لا يبدو مضمونًا في ظل التغييرات السياسية المتوقعة داخل الحزب الجمهوري، وتراجع حضور الشخصيات المؤيدة لنتنياهو في الدوائر القريبة من البيت الأبيض.
وفي قراءة سياسية موازية، يؤكد مراقبون أن الهدف الأعمق من هذه الزيادة يكمن في استرضاء المؤسسة العسكرية التي تشعر بأنها مهددة بتحقيقات 7 أكتوبر، ومحاولة احتوائها في ظل الصراع المتصاعد بين وزير الدفاع كاتس ورئيس الأركان إيال زامير، والذي تشير مصادر إسرائيلية إلى أن إقالته أصبحت شبه محسومة. كما يسعى نتنياهو وكاتس لكسب ثقة القاعدة اليمينية قبل الانتخابات، عبر رفع شعارات دعم الجيش والاستيطان حتى وإن كانت التكلفة باهظة.
وفي المحصلة، يبدو الكيان الإسرائيلي متجه نحو جولة ثانية من الحروب المفتوحة على جبهات متعددة، مدفوع بإحساس التفوق وباعتبار أنه أسقط "الخطوط الحمر" في المنطقة. لكن السؤال الحاسم يبقى: هل ستتكرر الجولة الثانية ما تحقق في الأولى، أم أن الحسابات الميدانية ستتبدل هذه المرة؟