أبو حويله يكتب: الماء والأمن القومي ...إيران نموذجا .

 

إبراهيم أبو حويله

مشكلة المياه في إيران تقف اليوم بين مفهوم الأمن القومي الزراعي الذي سعت الدولة لتحقيقه بكل السبل، وبطرق غير مستدامة، وبين واقع بيئي خطير تسبّب به الاستخدام الجائر للمياه الجوفية. فقد اعتمدت إيران، لسنوات طويلة، على ضخّ المياه بكثافة لدعم الزراعة، حتى في المناطق التي لا تتحمل بيئيًا هذا النوع من النشاط. كما توسعت في استخدام مياه جوفية قديمة (fossil water) غير متجددة، وفي حفر آلاف الآبار المرخّصة وغير المرخّصة على حد سواء، وتوسيع زراعات شرهة للماء مثل الفستق والقمح والبطيخ والقطن في مناطق شبه صحراوية، إضافة إلى إنشاء سدود ضخمة أثرت على التوازن الهيدرولوجي.

هذه السياسات، وإن كانت تسعى إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي، أدت إلى هبوط كارثي في مستوى المياه الجوفية، وتملّح مساحات واسعة من الأراضي، وجفاف بحيرات وروافد طبيعية مثل بحيرة أرومية، وخلق فجوة خطيرة بين العرض والطلب المائي.

تحوّلت الأزمة من بيئية إلى تهديد مباشر للأمن القومي: نقص في المياه، انخفاض في الإنتاج الغذائي، ضغوط اجتماعية، احتجاجات، وموجات هجرة داخلية من المناطق الزراعية إلى المدن. في هذا المناخ المضطرب، دخلت أطراف خارجية على الخط — ومنهم العدو التاريخي للأمّة — الذي وجد في العطش فرصة سياسية، فدعا الناس صراحةً إلى النزول إلى الشوارع والضغط على قيادتهم. وهذا بحد ذاته مؤشر واضح على تحوّل المياه إلى سلاح جيوسياسي يُستخدم ضد الدول.

هل أخطأت القيادة الإيرانية؟
نعم، وبشكل استراتيجي مؤسف. فقد أخطأت في فهم طبيعة الموارد وقيود البيئة. فالماء ليس موردًا سياسيًا يمكن إدارته بالرغبات، بل قيد طبيعي صارم لا يقبل المجاملة ولا الأيديولوجيا. الأمن الزراعي في إيران بُني على وهم الاكتفاء الذاتي في واحدة من أكثر البيئات جفافًا في العالم.

هكذا وجد الإيرانيون أنفسهم أمام وفاء زائف بالاكتفاء، يقابله إفلاس مائي. إدارة المياه كانت قصيرة النظر، والقرارات السياسية خدمت الحاضر على حساب المستقبل، في مشهد يشبه ما فعله الاتحاد السوفييتي حين حول أنهار آسيا الوسطى لريّ القطن، فجفّ بحر آرال.

لقد غابت الشفافية البيئية، وغابت معها المؤسسات المستقلة القادرة على المساءلة، فتم تسييس الملف، وتحول النقاش العلمي إلى نقاش أمني، واستُخدم الماء كورقة سياسية قبل أن يكون موردًا طبيعيًا.

إن تحويل الزراعة إلى مشروع سياسي كان خطأً استراتيجيًا. فالموارد المحدودة لا تخضع للشعارات، والطبيعة لا تُدار بخطابات الثورة أو الشعبويات. وإيران اليوم على حافة انعدام الأمن المائي في بعض المحافظات. والاحتجاجات المائية مرشحة للتوسع لأنها مرتبطة بالمعيشة المباشرة. والأعداء سيستمرون في استغلال الأزمة لأن الماء أصبح نقطة ضغط فعّالة.

إصلاح هذا الوضع يتطلب عشرين سنة على الأقل، حتى لو وضعت خطة صارمة بدءًا من الآن. والتحول سيكون إلزاميًا من الأمن الزراعي إلى أمن مائي–غذائي مركّب، كما بدأت بعض الدول الجافة مثل الأردن والسعودية في تبنيه.

إن الأمن القومي لا يُبنى على النوايا السياسية، بل على قراءة واقعية للموارد. والماء — بخلاف النفط — لا يصلح للمغامرات السياسية. من يسيء إدارته، سيجد خصومه يطرقون بابه عبر العطش، لا عبر الجيوش.