العياصرة يكتب: الفساد الانطباعي المجتمعي وأثره على هوية المؤسسات، وخاصة البرلمانية

 

د. هشام نبيل العياصرة - دكتور علم الاجتماع السياسي - جامعة فيلادلفيا

يشكّل الفساد – بمختلف صوره – أحد أبرز التحديات التي تواجه الدول الساعية إلى ترسيخ الحكم الرشيد وتعزيز الثقة بين المواطن والمؤسسات، واعتاد الرأي العام على التعامل مع الفساد بوصفه ممارسة فعلية قابلة للقياس كالرشوة أو المحسوبية أو إساءة استغلال السلطة، ولكن برز في السنوات الأخيرة نوع آخر من الفساد لا يقل خطورة، وهو الفساد الانطباعي المجتمعي.

ويكمن خطره في أنه فساد غير موثق أو ملموس، وغير قابل للقياس لكنه قابل للانتشار، ويمتلك قدرة هائلة على تشكيل المزاج العام وإعادة صياغة علاقة المجتمع بالمؤسسات، فهو قناعة راسخة لدى المواطنين بانتشار الفساد داخل مؤسسات الدولة، حتى في غياب الأدلة القاطعة، ويؤثر على الصورة الذهنية للمؤسسات ويقوّض الثقة العامة، ويُمثّل تهديداً وجودياً على هيئة وفاعلية المؤسسات التنفيذية والتمثيلية كالبرلمانات.

فالفساد الانطباعي المجتمعي ليس وهماً جماعياً، بل هو نتيجة مباشرة لخلل هيكلي يُرسّخ فكرة غياب الشفافية والعدالة والمساواة في إدارة الشأن العام، كما تُشكّل ضعف التشريعات المنظمة للتعيينات والمناصب القيادية سبباً جذرياً لولادة الانطباع السلبي، فالقوانين الغامضة أو التي تسمح بالتدخل الشخصي في الاختيار تُصبح بوابة لتغييب الكفاءات ووصول أشخاص بغير تأهيل أو جدارة إلى مواقع المسؤولية، وعندما يلاحظ المجتمع أن الواسطة والمحسوبية هي المعيار، وضعف أداء بعض المسؤولين وعدم كفاءتهم، يترسخ لديه شعور بأن المنظومة بأكملها فاسدة، ويُترجَم فوراً في الوعي العام إلى "خلل وفساد المؤسسات".

ويتغذى الفساد الانطباعي على غياب المعلومات وضعف التواصل الرسمي مما يترك فراغًا معلوماتيًا يملؤه المواطن بالتأويلات ويمنح الشائعات مساحة للتمدد قبل ظهور الحقيقة، إلى جانب التغطيات الإعلامية غير الدقيقة، وتضخيم الأحداث وتعميم الحالات الفردية عبر منصات التواصل والإعلام الرقمي على حساب المؤسسات وهيبتها.

لذا يؤثر الفساد الانطباعي على هوية المؤسسات، فهوية المؤسسة تتجاوز الهيكل الرسمي إلى صورتها الذهنية لدى الناس، وعندما تتعرض هذه الهوية لضغط الانطباعات السلبية، تتآكل الثقة العامة وتفقد شرعيتها المجتمعية، ومباشرة يتراجع معها فعالية الأداء، وتقل الدافعية لدى العاملين، فالموظف الذي يشعر بأنه جزء من مؤسسة مشكوك فيها يصبح أداؤه دفاعيًا أكثر منه إنجازيًا، ويصعب حينها تنفيذ الإصلاحات  التي تساهم في تغيير الصورة الذهنية إذا كان المجتمع مستغرقًا في حالة انطباعية سلبية.

ويمتلك المجتمع قدرة متفاوتة على التفريق بين ظاهرة الفساد الانطباعي وظاهرة الفساد الحقيقي، والتمييز بينهما يتم عبر تثبت المجتمع من وجود الأدلة ووتكرار السلوك، فالفساد الحقيقي يظهر في قرارات مشبوهة أو مصالح خاصة أو مخالفات مثبتة، أما الانطباعي فيقوم على غياب المعلومات أو تعدد مصادرها، فعندما تكون المعلومات من جهات رقابية أو صحافة مهنية أو أدلة قاطعة، فنحن أمام فساد حقيقي، أما المصادر المجهولة فتصنع فسادًا انطباعيًّا، فالمؤسسة التي تواجه الاتهامات بالصمت تعزز الانطباع السلبي، أما المؤسسة التي تصرح، وتوضح، وتحقق، وتعلن نتائج التحقيق، فتبني ثقة وتمنع التضليل، وقد تتشكل لدى المجتمع انطباعات سلبية تتحقق لاحقًا في نتائج التحقيقات، وهنا يكون المجتمع قد قرأ المؤشرات بشكل صحيح، فلا بد أن يقيم المجتمع قرارات المؤسسات بشكل موضوعي، فبعض القرارات الصعبة ليست فسادًا، بل إجراءات ضرورية، والتمييز بين القرار الصعب والقرار الفاسد جزء من وعي المجتمع.

ويتعين على المجتمع والإعلام ممارسة النقد المسؤول للمساعدة في التفريق بين الفساد الحقيقي والفساد المجتمعي، والمطالبة بالدليل والتوثيق وعدم الانجرار وراء الشائعات، والتركيز على المعلومات الموثوقة، والضغط على المسؤولين لتقديم الوثائق والأدلة الداعمة لقراراتهم، و التمييز الواضح والفصل بين الخطأ الإداري الناتج عن ضعف الكفاءة (الذي يتطلب تقويماً) والاستغلال المتعمد للسلطة (الفساد الذي يتطلب عقوبة رادعة)، وإن مواجهة الفساد الانطباعي تتطلب تحويل الشك المجتمعي إلى أداة مساءلة فعالة، وعندها فقط، يمكن للمؤسسات التنفيذية والنيابية أن تستعيد شرعيتها وثقة شعبها.

فالفساد الانطباعي المجتمعي ظاهرة مؤثرة على تماسك الدولة وصورة مؤسساتها، لكنه لا يلغي وجود الفساد الحقيقي الذي يحتاج إلى مواجهة جادة، ومهمة التفريق بينهما مسؤولية مشتركة بين الدولة والمجتمع والإعلام، فبدون شفافية مؤسسية، ومهنية إعلامية، وتفكير نقدي لدى المواطنين، يصبح المشهد عرضة للخلط، وتغدو المؤسسات ضحية الانطباعات أو أسيرة فساد فعلي غير مُحاسَب

وحتى لا يصبح الفساد الانطباعي ذريعة لتبرير الفساد الحقيقي، من المهم التحذير من استخدام بعض المسؤولين لهذا المفهوم كستار لإخفاء إخفاقاتهم، لذلك يجب أن يبقى واضحًا أن الفساد الحقيقي مسؤولية مرتكبيه وليس المجتمع، والفساد الانطباعي هو نتيجة ضعف الشفافية وضعف الأداء المؤسسي، وليس نتيجة مبالغة شعبية فقط، وأن انتقاد المجتمع غالبًا يعكس تراكمًا في الأداء، وليس حالة طارئة، وأن مواجهة الفساد الانطباعي لا تتم عبر مهاجمة المجتمع،  بل عبر تقوية منظومات المساءلة، وانفتاح المؤسسات، وتعزيز الشفافية، وتطوير النظم القانونية التي تعزز العدالة وتكافؤ الفرص، وتوفير المعلومات في وقتها.

تعتبر المؤسسات النيابية أكثر المؤسسات تضررًا من الفساد الانطباعي المجتمعي مقارنةً بباقي مؤسسات الدولة، حيث أنها تعبر عن صوت الشعب وتسعى لتحقيق تطلعاته، وتُعدّ هذه المؤسسات الأكثر تفاعلًا مع وسائل الإعلام والرأي العام، مما يسهم في تآكل دورها الحيوي وفقدان ثقة المواطنين بها، ونتيجة لذلك، تتعرض شرعيتها الديمقراطية للضعف، وتُنظر إليها بشك وريبة، فيضطر المجلس إلى صرف جهوده في نفي الاتهامات والدفاع عن سمعته بدلاً من التركيز على التشريع الفعّال ومراقبة الحكومة. 

كما يؤدي الفساد الانطباعي إلى تراجع صورة النائب ويقوّض ثقته بقدرته على تمثيل المواطنين، ويخفض المشاركة الانتخابية نتيجة إقناع الجمهور بعدم فعالية البرلمان. وتستغل بعض الخطابات الانطباعات السلبية لتعزيز النزعة الشعبوية والاستقطاب، مما يسيء حتى إلى الإنجازات الفعلية للمجلس، ويزيد من قناعة الجمهور بعدم جدوى المحاسبة، ويرتفع مستوى السخط العام ويميل الأفراد إلى الانسحاب من العملية الانتخابية، مما يهدد استقرار القاعدة الديمقراطية. كما أن ذلك يدفع الكفاءات إلى العزوف عن العمل السياسي والابتعاد عن العمل العام.

وبناءً عليه، فإن حماية هيبة المؤسسات، لا سيما النيابية، تبدأ من إعادة بناء الثقة، وهذه لا تُنتج فقط من خلال القوانين، بل تتطلب القيام بأدوارها الدستورية وأن تؤديه أداءً صادقًا، وتقديم معلومات واضحة وصحيحة، وتسجيل مواقف مسؤولة، واحترام الاخيارات العادلة، واحترام المؤسسات بعضها البعض.